الخميس، 2 ديسمبر 2010

رائحة الفجر


- "لا ميروحش المستشفى .. سيبوه يموت على فرشته!"

قالت جدتي تلك الكلمات بصوت مختنق بدموعها رداً على اقتراح أبي بأن ننقل جدي الذي سقط في غيبوبة إلى المستشفى .

أعرف أن الكثيرين يشعرون بدنو آجالهم ويأتون بأفعال لا يفهمها ذووهم إلا بعد فوات الأوان، لذلك الآن فقط أفهم لماذا أصر جدي على أن يحضر آخر صلاة عيد - رغم غيابه عنها في أعوام مرضه الأخيرة - وحرص على أن يسلم على جميع أصدقاءه القدامى الذين سأل عنهم بالاسم . هل وحدت عشرة عمر بأكمله بين روحي جدي وجدتي إلى حد أنها هي أيضاً استطاعت أن تشعر بدنو نهايته؟ أم أن قولها يعبر عن رغبة خفية في أن تبدي حبها له للمرة الأخيرة بأن تمنحه الحرية من سجن حياته التي أضحت ثقيلة عليه وعلينا؟ هي تعلم أنه كان سيذهب إلى المستشفى ليقضي أياماً في (العناية) - كما حدث عدة مرات من قبل - ثم يعود ليعيش المزيد من أيام ذل المرض والعجز .

عبر النافذة الواقعة فوق سريره أرى القمر بدراً يتوسط السماء . أنقل بصري بين وجهه الطيب الساكن وبين القمر، فأشعر للمرة الأولى أن من شبهوا وجوه الأحبة بالقمر لم يكونوا مبالغين . لكنه ليس تشابها في الشكل، بل في شعور السلام والسكينة الذي يبعثانه في النفس .

انتبهت إلى أني أرى القمر للمرة الأولى في حياتي عبر هذه النافذة دون أن تحول بيننا القضبان الحديدية التى كانت تسدها، فمنذ أسبوع فقط طلب جدي من عمي أن يأتي بمن يزيل تلك القضبان . أتذكر ما حكته جدتي عن أن جدي عندما سكن هنا نصحه الجيران بتركيبها على النوافذ تجنباً للصوص، لكنه رفض ذلك لأنه لا يريد للقضبان أن تكون بينه وبين السماء التي من أجلها خصيصاً تعمد أن يسكن بالطابق الأخير . بعدها بعام تقريباً تسلل ثلاثة لصوص إلى المنزل لكن لحظهم العاثر كان جدي موجوداً . تقسم جدتي على أن اللصوص كانوا يتوسلون إلى الجيران لاستدعاء الشرطه لتنقذهم من بين يديه ... لكنه عندما عاد من المعتقل قام بتركيب تلك القضبان بنفسه!

لا أحد في عائلتي يعرف شيئاً عن سبب اعتقاله . هل كان يخفي انتماءاً إخوانياً أو شيوعياً أم كانت وشاية من خصم ذو نفوذ أم أن هذا كان فقط على سبيل الخطأ؟ لم يتحدث جدي قط عن الأمر . حتى عندما جمعنا ذات يوم حوله ليحكي لنا عن حياته - بإيعاز من أبي الذي كان يراها وسيلة تربوية هامة لجيل الأحفاد - حكى بأدق التفاصيل حتى وصل إلى تلك النقطة فقفز عليها بقوله:

- "ودخلت المعتقل قعدت فيه أربع سنين، وبعدين طلعت!"

قالت جدتي أن أول ما فعله عندما عاد - بعد الانتهاء من نهر الدموع والعناق والقبلات - هو أنه نزع صورة عبدالناصر التي كانت معلقة في الصالة ليضعها بهدوء خلف الدولاب الضخم الذي يحتاج إلى أربعة رجال لتحريكه - لماذا اكتفى باخفائها ولم يحطمها؟ - وفي اليوم التالي ركب القضبان على النافذة مبررا ذلك بقوله:

- "معادش فيا حيل أضرب حد دلوقتي"

لكنه لم ينزع القضبان رغم استعادته لقواه خلال عام على الأكثر، وتمتعه بصحته كاملة لثلاثة عقود بعدها قبل أن يذوي ببطء بفعل الفشلين الكلوي والكبدي . هل اعتاد على قضبان السجن إلى حد أنه أراد أن يتمثلها في منزله؟ أم فقد القدرة النفسية على مقاومة الاعتداء حتى وإن احتفظ بقوته الجسدية؟

لكن إن كان سبب تركيبه للقضبان غامضاً، فسبب طلبه نزعها يبدو لي واضحاً . لقد شعر بدنو تحرره أخيراً . روحه الطاهرة القوية ستذهب إلى السماء التي يحبها متحررة من سجن جسده الضعيف العاجز، ومن الدنيا التي أخبرني ذات يوم بعيد بحديث الرسول عنها أنها (سجن المؤمن) .

أسمع الآن أذان الفجر . أتذكر عندما كان يأخذني معه للصلاة في المسجد منذ أعوام طويلة ودائماً في كل مرة يكرر:

"خد نفس كبييييير واحبسه في صدرك شوية قبل ما تطلعه .. دي ريحة الفجر .. أجمل ريحة ممكن تشمها في حياتك .. الكام نَفَس اللي هتاخدهم دلوقتي هما اللي هيخلوك كويس طول اليوم النهاردة .. لما تكبر فيه ناس هتقولك اصطبح بالسجاير أو الشيشة أو الحشيش .. خدها مني كلمة يابني .. ريحة الفجر دي هيا أحسن اصطباحة في الدنيا"

أقترب من النافذة وأتنفس بعمق . أملأ صدري برائحة الفجر وأنا أنظر إلى الشارع الساكن الخاوي إلا من رجل يتجه إلى المسجد ممسكاً بيد ابنته الصغيرة الجميلة التي تتقافز وهي تمسك بيدها الأخرى طرف (الإيشارب) الذي يغطي شعرها رغم ملابسها القصيرة الكاشفة عن ذراعيها وساقيها . بجواري أسمع صوت تنفس جدي يعلو وهو يتململ في رقدته - هل أعادت له رائحة الفجر بعض الوعي؟ - بينما أرى الطفلة قد تركت يد والدها وأخذت تجري نحو المسجد وهي تطلق ضحكات طفولية عالية أسمعها من هنا، وفي ذات الوقت أسمع صوت عمي يلقن جدي الشهادة:

- " قول لا إله إلا الله يا حاج"

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق