وأرضى أموت - بلا قافية - عشان العيشة زي الخمسة صاغ شغلتها بس ترخص الهرم المنقوش فوقها"
تميم البرغوثي
****
ما جرى في اليوم الأول:
فوجيء الأستاذ أحمد وزملاؤه هذا الصباح بجهاز عجيب الشكل يحتل مكان الدفتر العملاق الأثير، وبورقة معلقة بجانبه مكتوب فيها (على جميع المدرسين تسجيل بصماتهم في جهاز كشف البصمة اليوم، وتسجيل حضورهم بواسطته يومياً علماً بأن موعد رفع الجهاز هو السابعة والنصف صباحا)
تردد الأساتذة في التقدم للجهاز لكن أحدا منهم لم ينطق بكلمة، إلى أن تحدث الأستاذ عبدالجواد بصفته مسئولاً سابقاً عن دفتر الحضور ومسئولاً حالياً عن الجهاز:
- "فيه إيه يا أساتذه هتفضلوا واقفين باصينلي كده كتير .. يلا يا أستاذ مد صباعك وسجل بصمتك"
كاد أحدهم يتقدم نحو الجهاز لولا أن تحدث الأستاذ أحمد:
- "مفيش قانون قال إن الدفتر يتبدل بالجهاز هنا .. وبعدين مش عدل إن الأستاذ اللي أول حصة عنده التالتة ولا الرابعة ييجي هو كمان من سبعة ونص كل يوم، في الوقت اللي محاسيب المدير اللي بيقسمو معاه فلوس المجموعات بييجو ويمشو على راحتهم .. لو مصممين على حكاية الجهاز دي يبقى نتفق الأول على النظام اللي هيمشي بيه، وده يبقى على الكل مش يستخدمه ضد اللي مش بيدفعله بس"
- "حاسب على كلامك يا أستاذ أحمد .. وبعدين دي أوامر المدير وأنا عبدالمأمور .. لو مش عاجبك روح كلمه"
- "مش هروح أكلمه .. بس من دلوقتي لا أنا ولا أي حد من زمايلي هنسجل بصمتنا ولا هنمضي حضور .. شوفو انتو بقى هيبقى منظركو إيه قدام الوزارة لما يبقى عندكو كل المدرسين غايبين يومياً"
تصاعدت عبارات التأييد من الواقفين: "أيوة كده هو ده الكلام يا أستاذ أحمد" "إحنا مش شغالين عنده يجيبنا بمزاجه" " "عفارم عليك يا أستاذ أحمد"
انصرفوا جميعاً بربطة المعلم إلى الفصول دون أن يسجل أي منهم بصمته، بينما انصرف الأستاذ عبدالجواد حاملاً الجهاز إلى المدير ناقلاً له أنباء التمرد وأسماء قادته .
بعد نهاية اليوم الدراسي الرسمي وما يتبعه من تناول الغداء - الذي تخلله حكاية القصة لزوجته وأمه - وبداية اليوم الدراسي الخاص كان الأستاذ أحمد مازال منتشياً بما فعل، مما جعله يختلق أي مناسبة أثناء الدرس ليحكي لطلابه .
الطلاب يستولون على القضبان الحديدية مدببة الأطراف المعدة ليبنى بها سور الجامعة - التى كانت قبلها مفتوحة على المدينة - ويغلقون مداخلها عازمين على فرض الإضراب بالقوة على جميع الطلاب والأساتذة احتجاجاً على اتفاقية كامب ديفيد . الجامعة فارغة تماماً وقد استجاب الجميع سواء اقتناعاً أو خوفاً من العواقب . أحمد يلوح بالقضيب الحديدي في وجه سيارة دكتور أتى ليسجل موقفاً بحضوره لمحاضرته رغم علمه بأنها فارغة تماماً . الدكتور يتراجع بسيارته مذعورا ويغادر المكان . سيارات الأمن المركزي تحاصر الجامعة وفي مواجهتها تتصاعد الهتافات الجريئة لأحمد ورفاقه " يا سادات اتلم اتلم .. يا نخليها دم في دم!" " يا جيهان قولي الحق .. فورد باسك ولا لأ!"
يصل إلى قمة نشوته وهو يحكي لهم كيف قال بتحدي "شوفو انتو بقى هيبقى منظركو إيه قدام الوزارة لما يبقى عندكو كل المدرسين غايبين يومياً" وإن كانت العبارة قد تحولت مع تكرار القصة على مجموعات الطلاب التالية إلى "قول للمدير بتاعك أعلى ما في خيله يركبه .. أنا ميهمنيش لا المدير ولا الوزارة كلها"
عميد الكلية يطلب التحدث معه على انفراد، وبلهجة أبوية حانية يقول له:
- " يا أحمد احنا عارفين انك مش من الولاد الشيوعيين ولا الاسلاميين .. متضيعش نفسك معاهم ده انت الأول على الدفعة كل سنة .. اخزي الشيطان وارجع بيتك، ده ورق تعيينك على مكتبي"
أحمد يرد بصرامة استغرب هو نفسه منها بعدها:
- " أنا مستعد ادفع تمن موقفي .. وبعدين أنا مش عايز أتعين أصلا، أنا هروح أشتغل مدرس أربي الولاد إزاي لما يكبرو يعرفو يقولو لأ
يتمم القصة بالدرس المستفاد "لازم تبقو كده يا ولاد متقبلوش حد عشان أكبر منكو ياخد حقكو أو يدوسلكو على طَرَف" . الطلاب يتبادلون النظرات والابتسامات ويؤيدون "تمام يا أستاذ" " صح يا أستاذ"
بعد نهاية الدروس مر على منزل والدته ليشرف على العمال الذين يقومون بأعمال تجديد ودهان، وعلى غير العادة لم يتهاون في أدق التفاصيل معهم . اشتكى له أحد العمال من (المعلم) الذي يقتطع من يومياتهم، فنصحه بالوقوف أمامه بصرامة وحكى له ما فعل في المدرسة كمثال يُحتذى .
****
ما جرى في الأيام التالية:
سجل كل الأساتذة الذين يقسمون نقود المجموعات مع المدير بصماتهم وواظبوا على تسجيل حضورهم بالجهاز . سجل أستاذان بصمتهما "مهو احنا طبيعي علينا الحصة الاولى خمس أيام في الأسبوع .. مش فارقة بقى معانا ما كده ولا كده هنيجي بدري" . أخذ الأساتذة يسجلون بصماتهم فرادى بعد سريان اشاعة مفادها أن كل من سيتأخر سوف يسقط اسمه من كشف كادر المدرسين "معلش يا أستاذ أحمد بس انت عارف ده احنا في عرض مليم وعايزين نربي العيال"
الطلاب المعتصمون بحت أصواتهم من الهتافات فجلسوا على الأرض صامتين جائعين متعبين . من حين لآخر يأتي أب أو أم ليصطحب معه ابنه إلى المنزل . طالب يعتذر للرفاق بأنه مضطر للانسحاب لأنه مريض . طالب يقول انه ذاهب إلى الخارج لاحضار بعض الطعام للجميع لكنه لا يعود أبدا . آخرون يختفون فجأة بلا مقدمات . يسمع بالقرب منه صوتاً نسائيا متحمساًً: "وممكن احنا في قسم كيميا نحاول نعملكو قنابل مولتوف نقاوم بيها" . ينظر فيفاجأ بأنها زميلته عبير التي كان يخفي داخله اعجاباً شديداً بها منذ وقت طويل . منذ متى كانت بهذه الجرأة؟ فكر في أن يبدأ معها حديثا "وانتي ليه محدش من أهلك جه ياخدك انتي كمان من هنا؟" لكنه شعر بمدى سخف ذلك فسكت مكتفياً بالنظر لوجهها الجميل.
لم يذكر الأستاذ أحمد أي شيء عن الأمر سواء لطلابه أو لزوجته، وانقطع عن الذهاب للاشراف على سير العمل في شقة أمه مبررا ذلك لها بأنه لا يملك وقتاً .
****
ما جرى في اليوم الأخير:
أعلن المدير أنه قد قرر الاستجابة جزئياً لمطالب المضربين وجعل الحضور مسموحاً حتى الساعة الثامنة إلا ربع . دخل الأستاذ أحمد إلى غرفة الجهاز في آخر دقيقة . الغرفة خالية إلا من الموظف المسئول . سجل بصمته وخرج دون أن يكلمه أو ينظر إليه .
الظلام يعم الطلبة المعتصمين بعد أن قام الأمن بقطع الكهرباء عن الجامعة . يسمع من بعيد صيحات جنود الأمن المركزي المميزة "هاااه .. هاااه" . يتخيل هجومهم الوشيك واجتياحهم بملابسهم السوداء للمكان . يتذكر بعض ما قرأ أو سمع عن المعتقلات . ينظر حوله فيجد ألا أحد من رفاقه ينظر إليه . عبير مازالت هنا . فرشت البالطو الأبيض على الأرض ونامت فوقه وقد غطت وجهها بطرف الايشارب . لفترة طويلة بعدها سيحاول تذكر وجهها بلا جدوى فقد ثبت في ذهنه مشهدها وهي تغطيه . ينسحب بهدوء إلى طرف التجمع ثم إلى الخارج .
حكى لطلابه ما حدث "كده أحسن .. لازم الكل ييجي بدري عشان يبقى فيه نظام وانضباط .. الجهاز ده هو الحل لفساد الموظفين اللي بيمضو لبعض" . الطلاب يتبادلون النظرات والابتسامات ويؤيدون "تمام يا أستاذ" " صح يا أستاذ"
جالساً مع خطيبته في مطعم على النيل يشرب الليمون . يقول لها أن ما فعله الطلاب في الجامعة منذ شهور كان غباءاً لأن سياسة الدولة العليا لن تتغير أبداً من أجل "شوية عيال" وأن على كل طالب منهم لو كان حقاً "عايز يفلح" أن يهتم بمذاكرته ومستقبله فقط . كما أنهم شباب قليل الأدب ومجانين "فيهم بت زميلتي اسمها عبير اتخطبت وهيا جوا المعتقل من واحد تاني معتقل برضه . هما المجانين دول ضامنين هيطلعو امتى لما هيتخطبو"
اصطحب أمه إلى شقتها بعد أن انتهت أعمال التجديد والدهان . بمجرد دخولها ظهرت السعادة على وجهها "اللهم صلي ع النبي .. اللهم صلي ع النبي .. ده ولا كأني عروسة جديدة" ثم حانت منها التفاتة نحو الركن "إيه ده؟! .. أمال وديتو فين البوفيه؟" أخبرها أنه أعطاه مجاناً لأول بائع (روبابيكيا) لأنه "كان قديم أوي وضهره اتاكل خلاص" . اختفت السعادة وحلت مكانها الصدمة " حرام عليك .. ده أبويا الله يرحمه كان جابهولي لما اتجوزت بسبعة جنيه . طب مش كنت حتى بعته بتمنه!"
تميم البرغوثي
****
ما جرى في اليوم الأول:
فوجيء الأستاذ أحمد وزملاؤه هذا الصباح بجهاز عجيب الشكل يحتل مكان الدفتر العملاق الأثير، وبورقة معلقة بجانبه مكتوب فيها (على جميع المدرسين تسجيل بصماتهم في جهاز كشف البصمة اليوم، وتسجيل حضورهم بواسطته يومياً علماً بأن موعد رفع الجهاز هو السابعة والنصف صباحا)
تردد الأساتذة في التقدم للجهاز لكن أحدا منهم لم ينطق بكلمة، إلى أن تحدث الأستاذ عبدالجواد بصفته مسئولاً سابقاً عن دفتر الحضور ومسئولاً حالياً عن الجهاز:
- "فيه إيه يا أساتذه هتفضلوا واقفين باصينلي كده كتير .. يلا يا أستاذ مد صباعك وسجل بصمتك"
كاد أحدهم يتقدم نحو الجهاز لولا أن تحدث الأستاذ أحمد:
- "مفيش قانون قال إن الدفتر يتبدل بالجهاز هنا .. وبعدين مش عدل إن الأستاذ اللي أول حصة عنده التالتة ولا الرابعة ييجي هو كمان من سبعة ونص كل يوم، في الوقت اللي محاسيب المدير اللي بيقسمو معاه فلوس المجموعات بييجو ويمشو على راحتهم .. لو مصممين على حكاية الجهاز دي يبقى نتفق الأول على النظام اللي هيمشي بيه، وده يبقى على الكل مش يستخدمه ضد اللي مش بيدفعله بس"
- "حاسب على كلامك يا أستاذ أحمد .. وبعدين دي أوامر المدير وأنا عبدالمأمور .. لو مش عاجبك روح كلمه"
- "مش هروح أكلمه .. بس من دلوقتي لا أنا ولا أي حد من زمايلي هنسجل بصمتنا ولا هنمضي حضور .. شوفو انتو بقى هيبقى منظركو إيه قدام الوزارة لما يبقى عندكو كل المدرسين غايبين يومياً"
تصاعدت عبارات التأييد من الواقفين: "أيوة كده هو ده الكلام يا أستاذ أحمد" "إحنا مش شغالين عنده يجيبنا بمزاجه" " "عفارم عليك يا أستاذ أحمد"
انصرفوا جميعاً بربطة المعلم إلى الفصول دون أن يسجل أي منهم بصمته، بينما انصرف الأستاذ عبدالجواد حاملاً الجهاز إلى المدير ناقلاً له أنباء التمرد وأسماء قادته .
بعد نهاية اليوم الدراسي الرسمي وما يتبعه من تناول الغداء - الذي تخلله حكاية القصة لزوجته وأمه - وبداية اليوم الدراسي الخاص كان الأستاذ أحمد مازال منتشياً بما فعل، مما جعله يختلق أي مناسبة أثناء الدرس ليحكي لطلابه .
الطلاب يستولون على القضبان الحديدية مدببة الأطراف المعدة ليبنى بها سور الجامعة - التى كانت قبلها مفتوحة على المدينة - ويغلقون مداخلها عازمين على فرض الإضراب بالقوة على جميع الطلاب والأساتذة احتجاجاً على اتفاقية كامب ديفيد . الجامعة فارغة تماماً وقد استجاب الجميع سواء اقتناعاً أو خوفاً من العواقب . أحمد يلوح بالقضيب الحديدي في وجه سيارة دكتور أتى ليسجل موقفاً بحضوره لمحاضرته رغم علمه بأنها فارغة تماماً . الدكتور يتراجع بسيارته مذعورا ويغادر المكان . سيارات الأمن المركزي تحاصر الجامعة وفي مواجهتها تتصاعد الهتافات الجريئة لأحمد ورفاقه " يا سادات اتلم اتلم .. يا نخليها دم في دم!" " يا جيهان قولي الحق .. فورد باسك ولا لأ!"
يصل إلى قمة نشوته وهو يحكي لهم كيف قال بتحدي "شوفو انتو بقى هيبقى منظركو إيه قدام الوزارة لما يبقى عندكو كل المدرسين غايبين يومياً" وإن كانت العبارة قد تحولت مع تكرار القصة على مجموعات الطلاب التالية إلى "قول للمدير بتاعك أعلى ما في خيله يركبه .. أنا ميهمنيش لا المدير ولا الوزارة كلها"
عميد الكلية يطلب التحدث معه على انفراد، وبلهجة أبوية حانية يقول له:
- " يا أحمد احنا عارفين انك مش من الولاد الشيوعيين ولا الاسلاميين .. متضيعش نفسك معاهم ده انت الأول على الدفعة كل سنة .. اخزي الشيطان وارجع بيتك، ده ورق تعيينك على مكتبي"
أحمد يرد بصرامة استغرب هو نفسه منها بعدها:
- " أنا مستعد ادفع تمن موقفي .. وبعدين أنا مش عايز أتعين أصلا، أنا هروح أشتغل مدرس أربي الولاد إزاي لما يكبرو يعرفو يقولو لأ
يتمم القصة بالدرس المستفاد "لازم تبقو كده يا ولاد متقبلوش حد عشان أكبر منكو ياخد حقكو أو يدوسلكو على طَرَف" . الطلاب يتبادلون النظرات والابتسامات ويؤيدون "تمام يا أستاذ" " صح يا أستاذ"
بعد نهاية الدروس مر على منزل والدته ليشرف على العمال الذين يقومون بأعمال تجديد ودهان، وعلى غير العادة لم يتهاون في أدق التفاصيل معهم . اشتكى له أحد العمال من (المعلم) الذي يقتطع من يومياتهم، فنصحه بالوقوف أمامه بصرامة وحكى له ما فعل في المدرسة كمثال يُحتذى .
****
ما جرى في الأيام التالية:
سجل كل الأساتذة الذين يقسمون نقود المجموعات مع المدير بصماتهم وواظبوا على تسجيل حضورهم بالجهاز . سجل أستاذان بصمتهما "مهو احنا طبيعي علينا الحصة الاولى خمس أيام في الأسبوع .. مش فارقة بقى معانا ما كده ولا كده هنيجي بدري" . أخذ الأساتذة يسجلون بصماتهم فرادى بعد سريان اشاعة مفادها أن كل من سيتأخر سوف يسقط اسمه من كشف كادر المدرسين "معلش يا أستاذ أحمد بس انت عارف ده احنا في عرض مليم وعايزين نربي العيال"
الطلاب المعتصمون بحت أصواتهم من الهتافات فجلسوا على الأرض صامتين جائعين متعبين . من حين لآخر يأتي أب أو أم ليصطحب معه ابنه إلى المنزل . طالب يعتذر للرفاق بأنه مضطر للانسحاب لأنه مريض . طالب يقول انه ذاهب إلى الخارج لاحضار بعض الطعام للجميع لكنه لا يعود أبدا . آخرون يختفون فجأة بلا مقدمات . يسمع بالقرب منه صوتاً نسائيا متحمساًً: "وممكن احنا في قسم كيميا نحاول نعملكو قنابل مولتوف نقاوم بيها" . ينظر فيفاجأ بأنها زميلته عبير التي كان يخفي داخله اعجاباً شديداً بها منذ وقت طويل . منذ متى كانت بهذه الجرأة؟ فكر في أن يبدأ معها حديثا "وانتي ليه محدش من أهلك جه ياخدك انتي كمان من هنا؟" لكنه شعر بمدى سخف ذلك فسكت مكتفياً بالنظر لوجهها الجميل.
لم يذكر الأستاذ أحمد أي شيء عن الأمر سواء لطلابه أو لزوجته، وانقطع عن الذهاب للاشراف على سير العمل في شقة أمه مبررا ذلك لها بأنه لا يملك وقتاً .
****
ما جرى في اليوم الأخير:
أعلن المدير أنه قد قرر الاستجابة جزئياً لمطالب المضربين وجعل الحضور مسموحاً حتى الساعة الثامنة إلا ربع . دخل الأستاذ أحمد إلى غرفة الجهاز في آخر دقيقة . الغرفة خالية إلا من الموظف المسئول . سجل بصمته وخرج دون أن يكلمه أو ينظر إليه .
الظلام يعم الطلبة المعتصمين بعد أن قام الأمن بقطع الكهرباء عن الجامعة . يسمع من بعيد صيحات جنود الأمن المركزي المميزة "هاااه .. هاااه" . يتخيل هجومهم الوشيك واجتياحهم بملابسهم السوداء للمكان . يتذكر بعض ما قرأ أو سمع عن المعتقلات . ينظر حوله فيجد ألا أحد من رفاقه ينظر إليه . عبير مازالت هنا . فرشت البالطو الأبيض على الأرض ونامت فوقه وقد غطت وجهها بطرف الايشارب . لفترة طويلة بعدها سيحاول تذكر وجهها بلا جدوى فقد ثبت في ذهنه مشهدها وهي تغطيه . ينسحب بهدوء إلى طرف التجمع ثم إلى الخارج .
حكى لطلابه ما حدث "كده أحسن .. لازم الكل ييجي بدري عشان يبقى فيه نظام وانضباط .. الجهاز ده هو الحل لفساد الموظفين اللي بيمضو لبعض" . الطلاب يتبادلون النظرات والابتسامات ويؤيدون "تمام يا أستاذ" " صح يا أستاذ"
جالساً مع خطيبته في مطعم على النيل يشرب الليمون . يقول لها أن ما فعله الطلاب في الجامعة منذ شهور كان غباءاً لأن سياسة الدولة العليا لن تتغير أبداً من أجل "شوية عيال" وأن على كل طالب منهم لو كان حقاً "عايز يفلح" أن يهتم بمذاكرته ومستقبله فقط . كما أنهم شباب قليل الأدب ومجانين "فيهم بت زميلتي اسمها عبير اتخطبت وهيا جوا المعتقل من واحد تاني معتقل برضه . هما المجانين دول ضامنين هيطلعو امتى لما هيتخطبو"
اصطحب أمه إلى شقتها بعد أن انتهت أعمال التجديد والدهان . بمجرد دخولها ظهرت السعادة على وجهها "اللهم صلي ع النبي .. اللهم صلي ع النبي .. ده ولا كأني عروسة جديدة" ثم حانت منها التفاتة نحو الركن "إيه ده؟! .. أمال وديتو فين البوفيه؟" أخبرها أنه أعطاه مجاناً لأول بائع (روبابيكيا) لأنه "كان قديم أوي وضهره اتاكل خلاص" . اختفت السعادة وحلت مكانها الصدمة " حرام عليك .. ده أبويا الله يرحمه كان جابهولي لما اتجوزت بسبعة جنيه . طب مش كنت حتى بعته بتمنه!"
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق