عندما سارت الدبابات في شوارع القاهرة في يناير 2011 بينما جموع الشعب تحيطها وتهتف بحماس (الجيش والشعب إيد واحدة) بدا وكأن ستون عاماً من الزمن قد تم اختصارها لنستعيد مشهد هتاف الشعب حول دبابات جيش 23 يوليو (عاش القائد العام) (عائت حركة الجيش)، لكن هل حقاً يكفي هذا المشهد لمقاربة حقيقية؟ هل حقاً هؤلاء العسكر هم نفس العسكر وهذا الشعب هو نفس الشعب؟
بين عسكر 23 يوليو وعسكر 25 يناير
كان عسكر 23 يوليو في مجملهم من أبناء الطبقة الوسطى المصرية، هذه الطبقة التي كانت دائماً عماد الحركة السياسية والشعبية، كانوا قادمين من قلب شعبهم حاملين آماله وطموحاته وإحباطاته وحتى اختلافاته، لذلك كان الضباط الأحرار من كل الاتجاهات السياسية، الإخوان كعبدالمنعم عبد الرءوف، والشيوعي كأحمد حمروش وخالد محيي الدين، والليبرالي كزكريا محيي الدين، وفي مجملهم هم أبناء تجارب وطنية كمحمد نجيب الذي فاز في انتخابات نادي الضباط ضد رغبة الملك، أو عبدالناصر الذي حوصر في الفالوجة في حرب فلسطين، او السادات الذي شارك في اغتيال أمين عثمان ودفع ثمن ذلك فترة من الفصل من الجيش بما تبع ذلك من فقر وعوز.
أما عسكر 25 يناير فهم الجنرالات كبار السن المعزولين تماماً عن شعبهم حتى بالمعنى الحرفي للكلمة - يسكنون في (كومباوندز) راقية معزولة سواء في القاهرة أو في الساحل الشمالي! - لم نعرف لأحدهم أبداً أي نشاط سياسي أو أي آراء في أي شأن عام، هم أبناء سياسات الرؤساء الثلاث في عزل الجيش تماماً عن الحراك السياسي والمجتمعي لعلمهم بأنه عنصر القوة الأهم في الدولة المصرية، كأن الجيش كان الباب الذي دخل منه عسكر يوليو إلى السلطة ثم حرصوا على ان يغلقوه من خلفهم تماماً!
وبالتوازي مع سياسة عزل الجيش عن الشعب كان يتم إنشاء شبكة مصالح الجيش المستقلة الهائلة، فشهد الجيش تغولاً هائلاً في الهيئات المدنية الاقتصادية التابعة له من مصانع ومزارع وحتى محطات بنزين وفنادق، كما تم إقرار قاعدة أن الرتب الكبيرة في الجيش يتولون بمجرد تقاعدهم مختلف المناصب القيادية المدنية في الدولة بدءاً من المحافظ وحتى رئيس جهاز محو الأمية!
لذلك كان جيش 23 يوليو هو الأقرب للحس الشعبي وسرعة الاستجابه له، بل كان هو المبادر للحركة قبل الشعب نفسه، بعكس جيش 25 يناير بطيء الحركة صعب الاستجابة الأقرب لكونه جيش حكام الشعب لا جيش الشعب!
بين شعب 23 يوليو و شعب 23 يناير
شعب 23 يوليو هو الشعب المفعول به، الشعب الذي تحرك الجيش بالنيابة عنه ثم احتكر السلطة واحتكر الحديث باسم هذا الشعب نفسه، فالسلطة تقرر أن الحرية للشعب ولا حرية لأعداء الشعب ثم يكون للسلطة وحدها حق تحديد من هو الشعب ومن هم اعداء الشعب .
هو الشعب الموجه دائماً بفضل وسائل غسيل العقول الهائلة التي لم تتوفر لنظام في مصر كما توفرت لنظام يوليو، كل الصحف والإذاعة والتلفزيون والمغنيين والممثلين، الكل يروج لمشروع واحد في اتجاه واحد، وفي غياب تام لأي صوت آخر.
أما شعب 25 يناير فهو الشعب الفاعل، الشعب الذي يهتف بنفسه قائلاً أنه
(يريد) كذا، الشعب الذي سبق الجميع، سبق جيشه وكل نخبه السياسية وحتى توقعات عالمه
أجمع، وساعد على ذلك أن عهد احتكار الصوت قد انتهى إلى الأبد، فقد منحت
التكنولوجيا من انترنت وقنوات فضائية وهواتف محمولة أفقا واسعاً لغاية في توصيل
المعلومات خارج إعلام السلطة الرسمي، وفي تنظيم التحركات المعارضة، فالآن يمكن في
بضعة أيام فقط تنظيم مظاهرة كبيرة عبر (ايفنت) على (الفيس بوك) يحتشد لها الكثير
ممن لا يعرف منظموالمظاهرة عنهم أي شيء، بعكس الوضع سابقاً عندما كان الإبلاغ يتم
بشكل فردي شخصي بحت.
وفي كلا الحالتين كان الشعب هو ذلك المسكين المتعب، الذي أرهقه نهب
الإقطاعيين في الأولى، وفساد رجال الأعمال المحتكرين في الثانية، والذي غضب
للإهانة الوطنية التي تعرضت لها بلده بهزيمة حرب فلسطين في الأولى، أو بانبطاح
سياسة مبارك لأمريكا وإسرائيل في الثانية.
بين أعداء شعب 23 يوليو وأعداء شعب 25 يناير
لم يختلف اعداء الثورتين في جوهرهم وإن اختلفوا في صورتهم، فحل رجال الأعمال الذين جمعتهم شبكات مصالح هائلة مع رجال النظام القديم ومع القوى الدولية بممثليها من الشركات متعددة الجنسيات محل الإقطاعيين القدماء بما جمعهم أيضاً من مصالح مع رجال الملك ومع القوى الاستعمارية، هذه القوى التي بدلت شكل احتلالها من الاحتلال العسكري المباشر في الماضي إلى الاحتلال الاقتصادي والسياسي المستتر في هذا العصر.
بين عالم 23 يوليو وعالم 25 يناير
كان عالم ثورة يوليو عاملاً مساعداً لها، فهو العالم متعدد الأقطاب الذي يمكن استغلال تناقضاته لإيجاد حيز من الاستقلال وحرية الحركة لدى الدول النامية، وهكذا كان بإمكان عبدالناصر القيام بمناورات كلجوئه للاتحاد السوفيتي لتمويل مشروع السد العالي بعد رفض البنك الدولي أو كعقده صفقة الاسلحة الشرقية بعد رفض الغرب بيعه له.
بينما عالم ثورة يناير هو عالم أمريكا القطب الواحد، عالم الهيمنة الغربية الكاملة، رغم محاولات الصين وروسيا ايجاد شروخ في هذا الصرح فمازال من الصعب الفكاك منه.
بين قيادة 23 يوليو وقيادة 25 يناير
ربما كان هذا هو سبب الاختلاف الأبرز بين مساري الثورتين، فثورة يوليو وصل قادتها إلى الحكم فوراً ليكونوا في موضع مسئولية تنفيذ شعاراتهم، وهكذا كان قادة الثورة هم أنفسهم حكام البلد وهم أيضاً رموزها!
أما ثورة يناير فكانت بلا قائد محدد، لعب السلوك الجمعي للشعب كله هذا الدور، ولكن رغم كون هذا وضعاً ممتازاً للعمل الميداني فلا أحد يملك إعطاء الأمر بفض الميدان وإنهاء الثورة، فقد كان وضعاً سيئاً للعمل السياسي ، ففي غياب قادة للثورة تسلم الحكم جزء من النظام القديم هو المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ومن بعده عبر الانتخابات تسلمه جزء من المعارضة القديمة، بينما على صعيد آخر تمكنت الثورة من إفراز رموزها الخاصة المستقلة تماماً عن هذه المنظومة، وهكذا فرضت الثورة على الفضاء العام أسماءاً كوائل غنيم ومينا دانيال والشيخ عماد عفت وأحمد حرارة ....الخ
بين ثورية 23 يوليو وإصلاح 25 يناير!
كانت ثورة يوليو - رغم أن إطلاق هذا الاسم عليها اتى متأخراً، وكانت تعرف باسم (حركة الضباط) او (الحركة المباركة) - ثورة حقيقة على كل الأصعدة أدت لقطيعة كاملة مع ما قبلها، تم تغيير الطبقة السياسية الحاكمة تماماً بكل مكوناتها من ملك وأحزاب موالية وأحزاب معارضة، تم تغيير السياسات الاقتصادية لتصبح منحازة للعمال والفلاحين والطبقة الوسطى وتم سحق الاقطاعيين بأشد الوسائل جذرية، ثم تغيير السياسات الخارجية لتتحول مصر المحتلة إلى الدولة القطب الحاضنة لحركات التحرر الأفريقية والعربية.
بينما تبدو ثورة 25 يناير حتى الآن إصلاحية بامتياز، لم يتغير واقعياً إلا أقل القليل، ومازالت مكونات النظام القديم لم تراوح مكانها إلا بنظام الكراسي الموسيقية ، المعارضة القديمة الإخوانية والمدنية تأخذ مجالاً أكبر قليلاً، (القلب الصلب) للدولة أي الجيش تتراجع مكانته قليلاً، وبالمثل رجال الأعمال مع احتفاظهم بمميزاتهم الهائلة، مصر الخارجية مازالت حليفة أمريكا وإسرائيل والخليج وعدوة إيران، مازال الشباب يتظاهرون للإفراج عن رفاقهم المعتقلين، ومازال العمال الفقراء يعتصمون من أجل حقوقهم .
مازال الطريق طويلاً ..
بين أعداء شعب 23 يوليو وأعداء شعب 25 يناير
لم يختلف اعداء الثورتين في جوهرهم وإن اختلفوا في صورتهم، فحل رجال الأعمال الذين جمعتهم شبكات مصالح هائلة مع رجال النظام القديم ومع القوى الدولية بممثليها من الشركات متعددة الجنسيات محل الإقطاعيين القدماء بما جمعهم أيضاً من مصالح مع رجال الملك ومع القوى الاستعمارية، هذه القوى التي بدلت شكل احتلالها من الاحتلال العسكري المباشر في الماضي إلى الاحتلال الاقتصادي والسياسي المستتر في هذا العصر.
بين عالم 23 يوليو وعالم 25 يناير
كان عالم ثورة يوليو عاملاً مساعداً لها، فهو العالم متعدد الأقطاب الذي يمكن استغلال تناقضاته لإيجاد حيز من الاستقلال وحرية الحركة لدى الدول النامية، وهكذا كان بإمكان عبدالناصر القيام بمناورات كلجوئه للاتحاد السوفيتي لتمويل مشروع السد العالي بعد رفض البنك الدولي أو كعقده صفقة الاسلحة الشرقية بعد رفض الغرب بيعه له.
بينما عالم ثورة يناير هو عالم أمريكا القطب الواحد، عالم الهيمنة الغربية الكاملة، رغم محاولات الصين وروسيا ايجاد شروخ في هذا الصرح فمازال من الصعب الفكاك منه.
بين قيادة 23 يوليو وقيادة 25 يناير
ربما كان هذا هو سبب الاختلاف الأبرز بين مساري الثورتين، فثورة يوليو وصل قادتها إلى الحكم فوراً ليكونوا في موضع مسئولية تنفيذ شعاراتهم، وهكذا كان قادة الثورة هم أنفسهم حكام البلد وهم أيضاً رموزها!
أما ثورة يناير فكانت بلا قائد محدد، لعب السلوك الجمعي للشعب كله هذا الدور، ولكن رغم كون هذا وضعاً ممتازاً للعمل الميداني فلا أحد يملك إعطاء الأمر بفض الميدان وإنهاء الثورة، فقد كان وضعاً سيئاً للعمل السياسي ، ففي غياب قادة للثورة تسلم الحكم جزء من النظام القديم هو المجلس الأعلى للقوات المسلحة، ومن بعده عبر الانتخابات تسلمه جزء من المعارضة القديمة، بينما على صعيد آخر تمكنت الثورة من إفراز رموزها الخاصة المستقلة تماماً عن هذه المنظومة، وهكذا فرضت الثورة على الفضاء العام أسماءاً كوائل غنيم ومينا دانيال والشيخ عماد عفت وأحمد حرارة ....الخ
بين ثورية 23 يوليو وإصلاح 25 يناير!
كانت ثورة يوليو - رغم أن إطلاق هذا الاسم عليها اتى متأخراً، وكانت تعرف باسم (حركة الضباط) او (الحركة المباركة) - ثورة حقيقة على كل الأصعدة أدت لقطيعة كاملة مع ما قبلها، تم تغيير الطبقة السياسية الحاكمة تماماً بكل مكوناتها من ملك وأحزاب موالية وأحزاب معارضة، تم تغيير السياسات الاقتصادية لتصبح منحازة للعمال والفلاحين والطبقة الوسطى وتم سحق الاقطاعيين بأشد الوسائل جذرية، ثم تغيير السياسات الخارجية لتتحول مصر المحتلة إلى الدولة القطب الحاضنة لحركات التحرر الأفريقية والعربية.
بينما تبدو ثورة 25 يناير حتى الآن إصلاحية بامتياز، لم يتغير واقعياً إلا أقل القليل، ومازالت مكونات النظام القديم لم تراوح مكانها إلا بنظام الكراسي الموسيقية ، المعارضة القديمة الإخوانية والمدنية تأخذ مجالاً أكبر قليلاً، (القلب الصلب) للدولة أي الجيش تتراجع مكانته قليلاً، وبالمثل رجال الأعمال مع احتفاظهم بمميزاتهم الهائلة، مصر الخارجية مازالت حليفة أمريكا وإسرائيل والخليج وعدوة إيران، مازال الشباب يتظاهرون للإفراج عن رفاقهم المعتقلين، ومازال العمال الفقراء يعتصمون من أجل حقوقهم .
مازال الطريق طويلاً ..
................
(*) تم نشر هذا المقال بعد اختصاره على موقع مجلة (بص وطل) :
http://www.boswtol.com/politics/reports/12/july/23/62619