مفتتح:
وقال رب الأرباب زيوس: يا كيوبيد هذه شجرتي المقدسة، كل تفاحة منها أقسمها نصفين يهبطا إلى أرض البشر الفانين ليكونا ذكراً وأنثى يمضي كل منهما حياته بحثاً عن نصف تفاحته الآخر حتى يكتمل، أما إذا حاول نصفان من تفاحتين مختلفتين الالتحام فلا يلوما إلا نفسيهما ..
من الأساطير اليونانية
******
يمكنني تقسيم حياتي تبعاً لعلاقتي ببيت شعر المتنبي (ذو العقل يشقى في النعيم بعقله، وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ) إلى ثلاثة مراحل، الأولى تمتد منذ قرائتي له للمرة الأولى في المرحلة الثانوية حتى دخولي الكلية، حينها كنت ألوم المتنبي فكيف يجرؤ على القول بأن العقل سبب لتعب صاحبه؟ كنت أشعر بأن أبواب المستقبل مفتوحة أمامي، وأني يمكنني باجتهادي الدراسي وذكائي وثقافتي أن أحقق أي شيء، سأكون طبيباً عظيماً وأديباً عظيماً، ربما أفوز بجائزة نوبل في الأدب أو الطب أو كلاهما، ولا مانع من أن اتنازل وأقبل منصب وزير أيضاً، كنت ساذجاً إلى حد مضحك في تلك الأيام .
المرحلة الثانية كانت التصديق التام للبيت مع تقدمي في سنوات الكلية وشعوري بالفجوة السحيقة بين زملائنا أولاد الناس وبيننا نحن (ولاد الكلب الشعب)، كان عقلي لا يريد ان يكف عن التساؤل المجنون: ما ذنبي ليموت والدي عامل السكة الحديد الفقير مع أول سنوات الكلية دون أن يترك لنا إلا الستر؟ ما جريمتي التي يعاقبني الله عليها بأن أعمل كصبي قهوة في نفس الوقت الذي يكون زميلي فيه يذاكر/ يلعب / ينام؟ في المستشفى الجامعي أشاهد معاطف زملائي المكوية ناصعة البياض التي تتدلى عليها سماعاتهم الـ (لتمان) التي يساوي ثمنها دخلي في شهر كامل، وأحاول ألا تقع عيني على معطفي القديم وسماعتي مجهولة الهوية، كي لا أفكر مرة أخرى في مغزى حكمة الله من رفع بعضنا فوق بعض درجات، حتى لو كان هذا البعض الأخير هو الأقل ديناً وخلقاً وعلماً؟
بعد تخرجي - والتخرج في كليتنا لا يعني اتمام التعلم مطلقاً - تم تعييني في الوحدة الصحية بقرية (البلايزة) الواقعة في قلب جبل أسيوط الغربي لتبدأ المرحلة الثالثة: الواقع أسوأ مما قال المتنبي بكثير! أنا ذو العقل الذي لا يشقى في النعيم، بل أنا أشقى في الشقاوة ذاتها .. يقول من بقى من أهل القرية التي هجرها أغلب شبابها أن أسمها مشتق من (البلا) و (الأذى) وهم في ذلك محقون.
يوماً بعد يوم أفيق على صفعات الدنيا، أدرك أن حياتي ماضيها كئيب وحاضرها بائس ومستقبلها مظلم، لا علم، لا مال، لا زوجة، لا أبناء، لا أمل، فقط طبيب فقير مجهول في قرية فقيرة مجهولة، لا ظلام أشد من هذا الظلام.
لولا بقايا خافتة من إيمان قديم زرعه في والدي الراحل لرددت مع أبوالعلاء المعري أبياته الخالدة (إن كان لا يحظى برزقك عاقل، وترزق مجنوناً وترزق أحمقا .. فلا ذنب يا رب السماء على امرئ، رأى منك مالا يشتهي فتزندقا)، لكني وإن لم أكفر تماماً بالله فقد كفرت بكل شيء آخر، دع كل ما ينهار منهاراً، أمارس عملي بآلية رتيبة وفي داخلي تنصب اللعنات على مرضاي: اللعنة عليكم، وعلى جبلكم الحقير الذي يبعث الغبار في جو قريتكم القذرة، اللعنة على رجالكم بأصواتهم الغليظة، وأيديهم المشققة، وشواربهم الكثة، وأسنانهم النخرة من شرب المعسل المغشوش، اللعنة على نسائكم القبيحات ذوات الرائحة العفنة، اللعنة على أطفالكم بالمخاط المتدلي من انوفهم، والذباب الذي يغطي وجوههم الباكية إلى الأبد، بمجرد نهاية هذا العام سأطلب نقلي إلى قرية أخرى حالها أفضل منكم، وسأعمل بكل جهدي على مص دماء أهلها - بالتأكيد لن تكون ممصوصة بالفعل مثلكم - وسانتزع كل مليم ممكن من جيوبهم، حرام؟ ما أنا فيه هو الحرام الأكبر.
لقد كفرت بالكتب والشعر وكل تلك المخدرات الفكرية التي تجعل البشر حمقى يصدقون أن هناك ما يسمى بالحرام، دع كل ما ينهار منهاراً، وأضحت متعتي كل يوم مساءا هي التخلص بطريقة جديدة من أحد كتبي، ألتذ بمشاهدة النار وهي تحرق (الناس في بلادي)، ومياه الترعة العطنة وهي تغرق (أولاد حارتنا)، و(آنا كارنينا) وأنا امزقها شر تمزيق ... كان كل هذا قبل انبلاج صبحك في ليل حياتي يا آيتي.
******
حين عرفت أن معسكر الصحة العامة للفرقة الرابعة هذه السنة سيكون في قريتي، لم يخطر ببالي إلا أن هناك المزيد من الحمقى من هؤلاء الطلاب سيكرر تاريخي نفسه معهم، لم أكن أعرف أن هذه المعسكر سيحمل معه آيتي التي ستغير حياتي منذ اللحظة التي رفعت فيها رأسي من على مكتبي لأشاهدك وأنت تكلميني بلهجتك الخجول:
- " لو سمحت يا دكتور .. ممكن ألقى معاك سماعة أحسن من دي عشان مش عارفة أسمع بيها خالص؟"
تلقائياً وجدتني أقول بسخرية عابثة:
- " لأ .. أنا كمان زيك من ولاد الكلب الشعب"
قبل أن أتدارك زلة لساني أبهرني ردك الذي رافقته ابتسامتك التي سحرتني منذ ذلك الحين:
- " عبدالرحمن الأبنودي نفسه اللي قال البيت ده مكانش يائس زيك كده .. وشوف هو بقى إيه دلوقتي؟ "
تعرفين جيداً كيف كانت هذه العبارة مفتاحاً لتعارفنا - كم شخص في مصر كلها يعرف هذه القصيدة؟ - ثم لحبنا الذي نبت في أيام المعسكر كما ينبت العشب بين مفاصل صخرة، اكتشفنا أننا نصفا التفاحة التي تحدثت عنها الأسطورة اليونانية إلى حد مدهش، فكلانا من (ولاد الكلب الشعب) الذين يحملون المعاطف القديمة والسماعات مجهولة الهوية, كلانا يتيم الأب، كلانا يقرأ لنفس الكتاب والشعراء، وبالطبع كلانا له أم رائعة باركت خطبتنا بلا أي شروط.
لكنك لا تعرفين جيداً كيف انقسمت حياتي منذ ذلك الحين إلى (ما قبل آية) و (ما بعد آية) كما يقسمون التاريخ إلى ما قبل وما بعد ميلاد المسيح، في عصر (ما بعد آية) أصبحت جميلاً أرى الوجود جميلاً، لا أعرف كيف كنت غافلاً عن جمال مشهد الشمس وهي تغرب خلف الجبل، وعن أن رجال القرية طيبين ودودين، وأن بها فتيات لم ينجح الفقر في اخفاء جمالهن، وأني يمكنني أن أهش الذباب عن الطفل وأنظف وجهه ليكف عن البكاء ويمنحني أجمل ابتسامة في العالم.
عدت إلى كتبي أقرؤها بينما يزورني طيفك، (الناس في بلادي) و (أولاد حارتنا) يعشقون صوتك، و(الجدارية) فيها سحرك، و(آنا كارينينا) كانت تنتظرك لينتهي عذابها.
لهذا كله تفهمين الآن لماذا قرأت عليكِ قول أبي العلاء: إذا شئت أن تلقى المحاسن كلها، ففي وجه من تهوى جميع المحاسن، ورفضت استنكارك واتهامك له بالمبالغة، لا لم يكن يبالغ مطلقاً وها أنا المثال الحي أمامك على صدقه، وأيضاً أنا لا أبالغ حين أناديكي (يا آيتي)، فقد عدت بفضلك إلى ربي أطلب رضاه وعفوه عن أيام ضعفي التي يأست فيها من رَوحه، فالله الذي أرسل لي نصف تفاحتي لأكتمل هنا حيث البلا والأذى قادر على ان يحقق لي أي شيء آخر، حتى لو كان فوزي بجائزة نوبل في الطب أو الأدب أو كلاهما، تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق.
وقال رب الأرباب زيوس: يا كيوبيد هذه شجرتي المقدسة، كل تفاحة منها أقسمها نصفين يهبطا إلى أرض البشر الفانين ليكونا ذكراً وأنثى يمضي كل منهما حياته بحثاً عن نصف تفاحته الآخر حتى يكتمل، أما إذا حاول نصفان من تفاحتين مختلفتين الالتحام فلا يلوما إلا نفسيهما ..
من الأساطير اليونانية
******
يمكنني تقسيم حياتي تبعاً لعلاقتي ببيت شعر المتنبي (ذو العقل يشقى في النعيم بعقله، وأخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ) إلى ثلاثة مراحل، الأولى تمتد منذ قرائتي له للمرة الأولى في المرحلة الثانوية حتى دخولي الكلية، حينها كنت ألوم المتنبي فكيف يجرؤ على القول بأن العقل سبب لتعب صاحبه؟ كنت أشعر بأن أبواب المستقبل مفتوحة أمامي، وأني يمكنني باجتهادي الدراسي وذكائي وثقافتي أن أحقق أي شيء، سأكون طبيباً عظيماً وأديباً عظيماً، ربما أفوز بجائزة نوبل في الأدب أو الطب أو كلاهما، ولا مانع من أن اتنازل وأقبل منصب وزير أيضاً، كنت ساذجاً إلى حد مضحك في تلك الأيام .
المرحلة الثانية كانت التصديق التام للبيت مع تقدمي في سنوات الكلية وشعوري بالفجوة السحيقة بين زملائنا أولاد الناس وبيننا نحن (ولاد الكلب الشعب)، كان عقلي لا يريد ان يكف عن التساؤل المجنون: ما ذنبي ليموت والدي عامل السكة الحديد الفقير مع أول سنوات الكلية دون أن يترك لنا إلا الستر؟ ما جريمتي التي يعاقبني الله عليها بأن أعمل كصبي قهوة في نفس الوقت الذي يكون زميلي فيه يذاكر/ يلعب / ينام؟ في المستشفى الجامعي أشاهد معاطف زملائي المكوية ناصعة البياض التي تتدلى عليها سماعاتهم الـ (لتمان) التي يساوي ثمنها دخلي في شهر كامل، وأحاول ألا تقع عيني على معطفي القديم وسماعتي مجهولة الهوية، كي لا أفكر مرة أخرى في مغزى حكمة الله من رفع بعضنا فوق بعض درجات، حتى لو كان هذا البعض الأخير هو الأقل ديناً وخلقاً وعلماً؟
بعد تخرجي - والتخرج في كليتنا لا يعني اتمام التعلم مطلقاً - تم تعييني في الوحدة الصحية بقرية (البلايزة) الواقعة في قلب جبل أسيوط الغربي لتبدأ المرحلة الثالثة: الواقع أسوأ مما قال المتنبي بكثير! أنا ذو العقل الذي لا يشقى في النعيم، بل أنا أشقى في الشقاوة ذاتها .. يقول من بقى من أهل القرية التي هجرها أغلب شبابها أن أسمها مشتق من (البلا) و (الأذى) وهم في ذلك محقون.
يوماً بعد يوم أفيق على صفعات الدنيا، أدرك أن حياتي ماضيها كئيب وحاضرها بائس ومستقبلها مظلم، لا علم، لا مال، لا زوجة، لا أبناء، لا أمل، فقط طبيب فقير مجهول في قرية فقيرة مجهولة، لا ظلام أشد من هذا الظلام.
لولا بقايا خافتة من إيمان قديم زرعه في والدي الراحل لرددت مع أبوالعلاء المعري أبياته الخالدة (إن كان لا يحظى برزقك عاقل، وترزق مجنوناً وترزق أحمقا .. فلا ذنب يا رب السماء على امرئ، رأى منك مالا يشتهي فتزندقا)، لكني وإن لم أكفر تماماً بالله فقد كفرت بكل شيء آخر، دع كل ما ينهار منهاراً، أمارس عملي بآلية رتيبة وفي داخلي تنصب اللعنات على مرضاي: اللعنة عليكم، وعلى جبلكم الحقير الذي يبعث الغبار في جو قريتكم القذرة، اللعنة على رجالكم بأصواتهم الغليظة، وأيديهم المشققة، وشواربهم الكثة، وأسنانهم النخرة من شرب المعسل المغشوش، اللعنة على نسائكم القبيحات ذوات الرائحة العفنة، اللعنة على أطفالكم بالمخاط المتدلي من انوفهم، والذباب الذي يغطي وجوههم الباكية إلى الأبد، بمجرد نهاية هذا العام سأطلب نقلي إلى قرية أخرى حالها أفضل منكم، وسأعمل بكل جهدي على مص دماء أهلها - بالتأكيد لن تكون ممصوصة بالفعل مثلكم - وسانتزع كل مليم ممكن من جيوبهم، حرام؟ ما أنا فيه هو الحرام الأكبر.
لقد كفرت بالكتب والشعر وكل تلك المخدرات الفكرية التي تجعل البشر حمقى يصدقون أن هناك ما يسمى بالحرام، دع كل ما ينهار منهاراً، وأضحت متعتي كل يوم مساءا هي التخلص بطريقة جديدة من أحد كتبي، ألتذ بمشاهدة النار وهي تحرق (الناس في بلادي)، ومياه الترعة العطنة وهي تغرق (أولاد حارتنا)، و(آنا كارنينا) وأنا امزقها شر تمزيق ... كان كل هذا قبل انبلاج صبحك في ليل حياتي يا آيتي.
******
حين عرفت أن معسكر الصحة العامة للفرقة الرابعة هذه السنة سيكون في قريتي، لم يخطر ببالي إلا أن هناك المزيد من الحمقى من هؤلاء الطلاب سيكرر تاريخي نفسه معهم، لم أكن أعرف أن هذه المعسكر سيحمل معه آيتي التي ستغير حياتي منذ اللحظة التي رفعت فيها رأسي من على مكتبي لأشاهدك وأنت تكلميني بلهجتك الخجول:
- " لو سمحت يا دكتور .. ممكن ألقى معاك سماعة أحسن من دي عشان مش عارفة أسمع بيها خالص؟"
تلقائياً وجدتني أقول بسخرية عابثة:
- " لأ .. أنا كمان زيك من ولاد الكلب الشعب"
قبل أن أتدارك زلة لساني أبهرني ردك الذي رافقته ابتسامتك التي سحرتني منذ ذلك الحين:
- " عبدالرحمن الأبنودي نفسه اللي قال البيت ده مكانش يائس زيك كده .. وشوف هو بقى إيه دلوقتي؟ "
تعرفين جيداً كيف كانت هذه العبارة مفتاحاً لتعارفنا - كم شخص في مصر كلها يعرف هذه القصيدة؟ - ثم لحبنا الذي نبت في أيام المعسكر كما ينبت العشب بين مفاصل صخرة، اكتشفنا أننا نصفا التفاحة التي تحدثت عنها الأسطورة اليونانية إلى حد مدهش، فكلانا من (ولاد الكلب الشعب) الذين يحملون المعاطف القديمة والسماعات مجهولة الهوية, كلانا يتيم الأب، كلانا يقرأ لنفس الكتاب والشعراء، وبالطبع كلانا له أم رائعة باركت خطبتنا بلا أي شروط.
لكنك لا تعرفين جيداً كيف انقسمت حياتي منذ ذلك الحين إلى (ما قبل آية) و (ما بعد آية) كما يقسمون التاريخ إلى ما قبل وما بعد ميلاد المسيح، في عصر (ما بعد آية) أصبحت جميلاً أرى الوجود جميلاً، لا أعرف كيف كنت غافلاً عن جمال مشهد الشمس وهي تغرب خلف الجبل، وعن أن رجال القرية طيبين ودودين، وأن بها فتيات لم ينجح الفقر في اخفاء جمالهن، وأني يمكنني أن أهش الذباب عن الطفل وأنظف وجهه ليكف عن البكاء ويمنحني أجمل ابتسامة في العالم.
عدت إلى كتبي أقرؤها بينما يزورني طيفك، (الناس في بلادي) و (أولاد حارتنا) يعشقون صوتك، و(الجدارية) فيها سحرك، و(آنا كارينينا) كانت تنتظرك لينتهي عذابها.
لهذا كله تفهمين الآن لماذا قرأت عليكِ قول أبي العلاء: إذا شئت أن تلقى المحاسن كلها، ففي وجه من تهوى جميع المحاسن، ورفضت استنكارك واتهامك له بالمبالغة، لا لم يكن يبالغ مطلقاً وها أنا المثال الحي أمامك على صدقه، وأيضاً أنا لا أبالغ حين أناديكي (يا آيتي)، فقد عدت بفضلك إلى ربي أطلب رضاه وعفوه عن أيام ضعفي التي يأست فيها من رَوحه، فالله الذي أرسل لي نصف تفاحتي لأكتمل هنا حيث البلا والأذى قادر على ان يحقق لي أي شيء آخر، حتى لو كان فوزي بجائزة نوبل في الطب أو الأدب أو كلاهما، تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق