القصص / المشاهد التالية كانت مبعثرة بين منتدى روايات وملفات وورد على الكمبيوتر وغياهب كشكول المحاضرات .. خطرت على بالي فكرة إعادة صياغتهم وجمعهم هنا عندما نقلت رنا أشرف دعوة مملكة جيرالدين - حيث الصحراء أصغر والقمر أكبر طبعاً - لـ 30 يومأ متواصلاً من التدوين حتى لو عن مواقف يومية عابرة ..
من عادتي أن أسجل لنفسي مواقف حدثت في الحياة اليومية شعرت فيها بمحتوى انساني رقيق أو مؤلم أو صادم يذكرني بكلام د.أحمد خالد توفيق نقلاً عن أوسكار وايلد عن الطبيعة التي تقلد الفنان وعن الواقع الذي يتحدى خيال أي كاتب .. لا أريد أن أنسى ما حدث وانطباعي عنه ..
أعتقد إني قمت هنا بما تسميه رنا (التخلص من ندوب الكتابة الخشنة) حيث (تبدو الأشياء التافهة جميلة)
عندما جمعتهم وراجعتهم الآن جميعاً مرة واحدة تذكرت بشدة رواية علاء خالد العبقرية : ألم خفيف كريشة طائر تنتقل بهدوء من مكان لآخر
الألم هنا ينتقل بهدوء من مريض لآخر .. سواء كانوا المرضى على الأسرة الذين يعرفون أنهم مرضى أو المرضى الواقفين حولهم بالمعاطف البيضاء وهم لا يعرفون أنهم مرضى ....
عايز شاي
كان الراوند راوند عصبية ..
وكانت الحالة حالة cerebellar ataxia (الترجمة في القاموس هي "الهَزَع المخيخي" وهو ما يجعلنا نعيد التفكير في موضوع لغتنا الجميلة ده)
وكان البطل الهامشي هو محمد الذي يحاول أن يظل حياً ويظل طبيباً ..
أدخل العامل المريض على كرسي متحرك .. فاقداً القدرة على الحركة في اطرافه الاربعة .. يتحدث بصعوبة شديدة جداً بالمقاطع المشوهة الممطوطة المميزة لذلك المرض - staccato speach - وبالكاد فهمنا انه يقول لنا: عايز شاي!
تجاهله الجميع إلى أن أتت الدكتورة .. بمجرد بداية زميلي في تقديم الحالة بمصطلحاتنا الطبية التي تبدو لغيرنا طلاسم غامضة أصر الرجل على تكرار طلبه مقاطعاً كلامه:
- عايز شاي!
- بايعياللشقثضفنهكمف يبادحوظالا - حاضر يا عم محمد هنجيبلك - لبثخهيقساغسفاةقحخسيشثت
- عايز شاي!
- بثاقفتكطوصظوب - ما قلنا حاضر يا عم محمد .. أول ما نخلص هنجيبلك - ثقلافايلةسيبىتثءيبصح
بدأنا الكشف و......
- عايز شاي!
- ما تجيبولو شاي يا ولاد
- والله يا دكتورة جبناله امبارح لما كشفنا عليه والعامل شربه (يصب الشاي في فمه مباشرة) ودلوقتي حالا قبل ما يدخل جبناله كباية تاني!
ملت على أحد زملائي وسألته: هو الكبايه هنا بكام؟ فقال أنها بجنيه ونصف
- عايز شاي!
- ما قلنا يا عم محمد هنجيبلك والله
فتحت الدكتورة الباب ونادت العامل:
- اول ما نخلص وتطلع بيه مكانه ابقى اعمله كباية شاي على حسابي
-يا دكتورة ده كده ليه عندنا 3 كبايات! .. دكتور احمد نصر ودكتور محمد فوزي هما كمان حاجزينله على حسابهم!
الدكتورة موجهة حديثها لعم محمد:
- عايز ايه بقى تاني .. ده انت كل القسم طالبلك شاي اهه!
- هما بيقولو كده ومش بيجيبو
- لا يا سيدي انا هجيبلك .. انا طالعة القسم دلوقتي عندي مرور وهعدي بنفسي اتأكد انهم بيشربوك الشاي .. خلاص كده؟ .. سيبنا نشوف شغلنا بقى
أحد زملائي (وهو يمتاز بشارب رفيع فوق فمه بيخنقني بصراحة) سمعته يهمس بضيق لزميل آخر:
- ايه الراجل اللي بيشتغل نفسه ده .. مايبطل وجع دماغ بقى!
قلت:
- كباية الشاي دي بالنسباله غير بالنسبالك .. الراجل ده بحالته دي خلاص خسر كل حاجة في الحياة .. الشاي ده هو آخر حاجة كويسه في حياته كلها .. تخيل انت اكتر حاجة بتبسطك في دنيتك ايه .. سفر؟ سهرة مع اصحابك؟ ماتش كورة؟ ترتب على الدفعة؟ الشاي بالنسباله هو كل ده ..
الزميل ذو الشارب الرفيع لم يبدي اقتناعاً بينما الزميل بدون شارب استجاب:
- عندك حق .. ده انت متعرفش كمان .. الراجل ده مراته ماتت ومكانش مخلف وبقاله هنا 3 شهور محدش بيسأل عنه!
- ومستكترين عليه الشاي؟!
بعد 10 دقائق :
- عايز شاي!
هذه المرة بابتسامة سعيدة رسمها بصعوبة على فمه المتشنج، جعلتنا نفهم أنه يمزح معنا .. ضحكنا جميعاً حتى الزميل ذو الشارب الرفيع ..
====
الفرن
أنا واثنين من زملائي واقفين حائرين في قسم الصدر مساءاً .. المريضة العجوز ترفض بشدة أي تعامل معنا ولو حتى سماع ظهرها من فوق الملابس!
أخبرت النائب الموجود فأتى ليقول لها بلهجة محذرة وهو يلوح بسبابته مهدداً:
- ها .. هتسيبيهم يكشفو عليكي على راحتهم ولا نوديكي الفرن تاني!
فورا ظهر عليها الفزع :
- لا خلاص .. كله إلا الفرن .. هسيبهم يعملو اللي عايزينه !
واستسلمت لنا تماماً ..
سألته بعدها عن هذا الفرن فضحك كثيراً وقال:
- ده جهاز الـ CT (الأشعة المقطعية) .. لما راحته مره رجعت مرعوبة أوي وبتقول دول دخلوني الفرن وطلعوني، ومن ساعتها لما نعوز منها أي حاجة نهددها اننا هنوديها الفرن تاني فتسمع الكلام ..!
لا أرى الأمر مضحكاً .. هذه المريضة لا تشعر بمشكلة في حياتها كلها وهي فرن رهيب حقيقي يقتلها ببطء هي وأمثالها، بينما تخاف كل هذا الخوف من هذا الفرن الوهمي الذي هو في حقيقته وسيلة لعلاجها ..
ليست وحدها .. كل واحد منا عنده فرنه الوهمي الخاص الذي يخاف منه بلا داعي، وفرنه الحقيقي الذي لا يراه ...
====
جلسات علاج السياسة
كانت هذه أول مرة في حياتنا ندخل قسم الأمراض النفسية .. كنت اتوقع أي شيء حتى مقابلة من يعتقد نفسه نيرون أو عنترة كما في فيلم اسماعيل يس .. لكني لم اتوقع أبداً أن أقابل من مرضه السياسة!
المريض كان يبدو شخصاً محترماً جداً عاقلاً جداً !
ملابسه نظيفة للغاية، وشعره مسرح بعناية، وذقنه حليقة، ويتكلم بكل هدوء وعقلانية
- ايه اللي جابك هنا؟
- أنا اللي جابني هنا السياسة!!
- ازاي يعني؟
- هو حسني مبارك اللي خلاني كده .. أول ما بس اشوفه في التلفزيون يركبني ميت عفريت!
- ليه كده؟
- ما انت شايف يا بيه حال البلد واللي احنا فيه .. الحرامية هما اللي ماسكين البلد .. شفت عملو ايه في أيمن نور؟
- ماله أيمن نور؟
- دخلوه السجن ظلم .. عشان عايزين يورثو البلد لابن الريس!
- طيب ولما انت مش عايز ابنه .. عايز مين يبقى الريس مثلا؟
- أي حد يا باشا بس يكون شريف ويخاف من ربنا .. أي حد حتى زيك انت يا باشا
(كلنا نضحك والدكتور يقرر تغيير الموضوع .. يبدو أنه فكر أن الحيطان لها آذان حتى لو كانت حيطان قسم الامراض النفسية)
- طيب خلاص .. سيبنا من موضوع السياسة ده .. مفيش حاجة تاني تاعباك؟
- لا مفيش .. انا مجابنيش هنا إلا السياسة!
- مفيش أي حاجة أي حاجة؟!
- يعني .. حاجات بسيطة كده مش مستاهلة
- حاجات بسيطة زي إيه؟
- ساعات اتضايق فاضرب اخواتي وأكسر البيت!!
- بتاخد مخدرات أو مكيفات؟
- لا دي حاجات بسيطة أوي كده متستاهلش
- قولنا بس .. حاجات بسيطة زي إيه؟
- باخد حشيش وشوية كيميا بسيطة زي كذا وكذا وكذا (كمية مرعبة من أصناف الأدوية المخدرة!)
- طيب .. وانت دلوقتي بعد العلاج بقيت كويس؟
- ايوة الحمد لله .. احنا كنا فين وبقينا فين .. لما جيت هنا بقيت باخد جلسات اشعاع بتطلع من دماغي السياسة .. ده انا حتى عايز آخد معايا الجهاز البيت وآخد الجلسات على طول عشان السياسة متجيش في دماغي تاني!
(جلسات الاشعاع هو الاسم الذي يقوله الدكاترة للمرضى على جلسات الكهرباء)
====
علاج أفضل للقلب المريض
- " ما يبطل رغي بقى .. صدعنا"
سمعت العبارة الهامسة من أحد زملائي خلف ظهري بينما كنت مع مجموعتي نفحص حالة أخرى .. نظرت نحوه فشاهدت ثلاثة من زملائي حول سرير مريض يتكلم باستمرار مما يعوقهم عن سماع قلبه .. ثلاثتهم يخفون بالكاد ملامح التذمر والضيق منه، ويكتفون بتحريك رءوسهم من حين لآخر كأنهم يسمعونه بينما لا يكفون عن أن يطلبوا منه الصمت قليلاً كي يسمعو .. كلما انتهى أحدهم من الكشف غادر فورا إلى أن انصرف الثلاثة ..
وقفت بجوار سريره ناظراً له فانتبه لأني أسمعه، فالتفت لي مكملاً ما يحكيه وكأني كنت معه منذ البداية ..
حكى عن زوجته وأبناؤه الذين افتقدهم .. حكى عن قريته التي كان يعيش فيها قديماً .. عن جبل كان يصعد فوقه ليرى خضرة الحقول بجوار صفرة رمال الصحراء، وعن ترعة كان يسبح فيها ويصطاد السمك وعن نخيل:
- " أنا كنت اصحى الصبح القى مفيش بلح للفطار .. اجري في ثواني اطلع النخلة ومن فوق أهز السباطة وينزل البلح يرخ على راس اخواتي"
حكى عن موسم حصاد القمح ودرسه، وعن أمه التي كانت تعد لهم البتاو والسمن البلدي:
- " أنا كنت كل يوم أشرب السمنة البلدي السايحة من الطبق أو آكلها بالمعلقة كدة (يمثل بيده حركة الملعقة) .. متوعوش انتو على الحاجات دي .. دلوقتي انتو بتاكلو السمنة اللي ملهاش لا طعم ولا ريحة"
حكى كثيراً جداً إلى أن استئذنت منه أن أغادر لأن وقت السكشن انتهى وعندي درس بعده ..
كان سعيداً للغاية وعلى وجهه ابتسامة راضية ..
أعرف جيداً أن قلبه الآن حاله أفضل ...
====
كرامة
القاعدة هي:
الأمهات في مستشفى الأطفال فقيرات بائسات ..
الأمهات في مستشفى الأطفال يمارسن ضمنياً التسول مننا، إن لم يكن النقود فعلى الأقل البسكوت والحلويات لأبنائهن ..
الأمهات في مستشفى الأطفال بلا كرامة (ككل المرضى تقريباً في أي مكان حكومي مجاني)
لكن نصيبي كان أن أرى استثناء القاعدة ...
عندما دخلنا عليها وأخبرناها أننا سنكشف الآن على ابنها لم ترحب خاصة أنه كان على وشك النوم .. ظننا أن هذا التعامل البارد على الأرجح مرده أنها تريد أن تأخذ منا شيئاً كالعادة، لذلك خاطبني زميلي:
- استنى يابني .. خلينا في الكلام المهم الأول .. طلع البسكوت اللي معاك
فاجأتنا بأن نظرت لنا بغضب وقالت بلهجة جافة صارمة:
- ممكن تكشف على راحتك من غير لا بسكوت ولا غيره .. احنا مش عايزين حاجة من حد!
شعرت بالخجل الشديد .. قلت لها:
- ده زي اخويا الصغير ودي حاجة بسيطة أوي .. والله ما نقصد أي حاجة ..
بعد لحظة صمت أخذت البسكوت وسمحت لنا بالكشف ..
تعلم زميلي من هذه الحالة شيئا جديداً عن الـ nephritic syndrome وتعلمت أنا شيئاً جديداً عن الكرامة ...
====
صوتان
كالعادة متاخراً جداً ..
كالعادة أصعد السلم مسرعاً جداً ..
لكن ليس كالعادة اوقفني شخص على السلم .. يرتدي جلباباً قذراً ويمسك بدوسيه تطل منه ورقات متسخة .. يقول لي أشياء لا أتبينها بسبب انخفاض صوته الشديد وبسبب تعبي (تسعة أدوار جرياً لأن انتظار المصعد يعني المزيد من التأخير، وهو ترف لا أملكه!) .. أطلب منه تكرار كلامه فيوضح:
- والله يا بيه أنا بأقبض معاشي 75 جنيه والدوا ده عايز أشتريه ومش قادر، وآدي ده كل الورق بتاعي شوفه .. ساعدني بأي حاجة تقدر عليها ربنا يساعدك ..
بحثت في جيوبي (عينه الملهوفة تتعلق بيدي انتظاراً لما سأخرجه من جيبي) فاكتشفت أني في استعجالي للنزول لم آخذ أي نقود مطلقاً (يدي خرجت فارغة وعينه عادت منكسرة) .. قلت له:
- أنا آسف .. والله ما معايا ولا مليم دلوقتي
قال لي:
- ولا يهمك .. ربنا يكرمك ويوفقك يا ولدي
تركته وأكملت صعود السلم بينما من خلفي مازال صوته يدوي بالدعاء لي وكأني أعطيته كل ما بجيبي بالفعل ..
صوته الآن مرتفع جداً ..
هل ارتفع صوته لأنه شعر بأنه انتقل من مرحلة الآخذ الذليل إلى مرحلة المعطي حتى لو كان ما يعطيه هو الدعاء فقط؟ .. هل يعرف أن عطاؤه هو الأثمن؟
====
خناقة ومصحف شريف وابتسامة
اكفهر وجه هذه الأم - رغم سنها الصغير ووجهها الذي لا يخلو من جمال - بمجرد ان دخلنا كأنها رأت الكونت دراكيولا شخصياً قادما مع حاشيته مشهرين أنيابهم الحادة لمص دماء ابنها ..!
طلبت منها الدكتورة أن نفحص طفلها الرضيع، فردت متذمرة:
- الدنيا برد عليه ومش عايزة أشيل البطانية
- معلش يا ستي هنخلص بسرعة
- طيب (بوجه عابس جدا)
الطفل مصاب بحالة فتاق متقدمة جدا أدت إلى severe oedema in the scrotum .. عقلي ذهب بعيداً إلى ان هذا الطفل على الأرجح قد ضاع مستقبله إلى الأبد في الزواج أو الانجاب!
الدكتورة تشرح وتطلب من الأم أن تديره لنا لنراه، والأم مازالت تتذمر:
- ما احنا قاعدين هنا بقالنا كذا يوم ومحدش راضي يعمله العملية والفتاق بيكبر .. هتقعدونا لحد امتى (ابنها يبكي بصوت عال)
الدكتورة تتجاهلها وتكمل الشرح .. ثم تطلب منها ارضاع ابنها ليسكت ..
الأم تتجاهل طلب الدكتورة وتواصل التذمر:
- وانا هيفيدني بايه اللي بتقولوه ده كله .. ما تعملوله العملية بقى ..
الدكتورة تواصل الشرح والتجاهل، ثم تكرر طلبها منها بارضاع الطفل ليسكت ..
الأم تكرر تجاهل طلبها، وتواصل التذمر بينما تهز ابنها هزا عنيفا يدل على عصبيتها الشديدة:
- ما تقولولنا لو مش عايزين تعملوهاله نطلع احنا بره نشوف حتة تاني!
الدكتورة مازالت تواصل الشرح والتجاهل، فيكون رد فعل الأم الغاضبة هو أن أخذت ابنها في حضنها واعطتنا ظهرها بحركة سريعة حادة، وبدأت في ارضاعه ..
هنا قلت لها :
- مينفعش نعمله العملية دلوقتي لانه صدره تعبان .. ده ميستحملش البنج ولو دخل عمليات كده هيموت فيها .. اول ما صدره يخف هنعمله العملية على طول ..
الأم تنظر للدكتورة:
- صح الكلام اللي بيقوله ده يا دكتورة؟
استجابت أخيرا بعد ان انقطع الشرح:
- أيوة صح .. هو بس صدره يخف وهيعمل العملية على طول
- بجد؟ (نظرة متشككة)
- أيوة والمصحف .. والمصحف الشريف يا ستي هو بس صدره يخف وهنعملهاله .. احنا هنقعدك عندنا ليه بس؟! .. معلش بقى وانتي بترضعيه زي ما انتي ادينا بس وشك عشان عايزين نشوف حاجات بسيطة في وشه وايده ورجله
هذه المرة استجابت الأم ببساطة، وتجاوبت معنا حتى انتهينا
أثناء انصرافنا قلت لها:
- ألف سلامة على ابنك .. ان شاء الله يبقى بكل خير
- الله يسلمك يا دكتور .. ابقى تعالى كل يوم .. ادعوله يكبر ويبقى دكتور زيكو
قالت جملتها الأخيرة بابتسامة جميلة جداً .....
هل كانت ستبتسم لو عرفت أن ما كنا نراه في وجهة ويده وقدمه هي علامات Down syndrome ؟!!
(البله المغولي - تخلف عقلي مع تأخر وظائف أخرى)
====
شوشو والميكي ماوس
بمجرد دخولي المكان متأخراً لفت نظري جمال الطفلة .. فعلا أجمل طفلة شاهدتها في المستشفى حتى الآن، ومن أجمل الأطفال الذين شاهدتهم في حياتي
فوراً قالت الدكتورة (التي أسمع منذ زمن عن أن من يجد نفسه معها هو شخص محظوظ جدا) بلهجة تمثيلية مرحة للغاية:
- تعااااااالى ياللي جاي متأخر .. ادخل على طول .. حط السماعة يلاااااااااااااااا !
- هيا عندها ايه؟
- انت هتسألني يا واد! ده انا اللي اسألك .. يلاااااا .. حط السماعة وقولنا شوشو (اذن هذا هو اسمها؟ .. رائع) عندها إيه ..
وضعت السماعة ..
يا رب لا تجعلها مريضة بمرض خطير .. تباً! صوت التنفس ليس طبيعياً .. يا رب لا تجعلها مريضة بمرض خطير .. تباً! صوت القلب ليس طبيعيا! .. يا رب لا تجعلها مريضة بمرض خطير .. تباً! إنه خطير!
- ها يا واد .. سمعت ايه؟
- سمعتsebilant ronci في الـlungs و murmer في الـ heart
- الله عليك! .. جامد أوي انت! .. جبت التايهة كده! .. بقى فيه حاجة اسمها murmer كده وخلاص .. نوعه ايييه يا وااااد؟
- نوعه pan systolic
- تماااام .. تبقى كده دي V S D ولا Rheumatic ؟
متشبثاً بالأمل:
- أكيد V S D لان سنها مناسب للـ congenital وصغير أوي على الـ Rheumatic (أسماء أمراض قلب)
- يا سلاااام عليك .. طب ايه رأيك بقى انها Rheumatic ..! شوشو عندها 8 سنين ومفيش مانع ييجي في السن ده حتى لو نادر .. أنا شرحت نميزهم ازاي من الصوت قبل ما تدخل ومفروض انكو عارفينها من الكارديو، بس ما علينا هعيدهالك تاني
اندمجت جدا في الشرح وفجأة بلا مقدمات:
- انت يا واد مالك كده .. فيه ايه؟
- مالي؟ فيه ايه؟
- مش عارفة .. بس من ساعة ما دخلت وانا حاسة انك عامل زي ميكي ماوس!
ضحك الجميع بما فيهم شوشو، وأكملت الشرح ثم فجأة:
- اوعى تكون بتزعل .. أنا باهزر معاك بس ..
- على راحتك مفيهاش حاجة ..
بعدها كان من المفترض أن نلمس صدر الطفلة بايدينا فقط لنشعر بنبضات القلب الغير طبيعية .. عندما أتى دوري كنت أنفخ في يدي و ....
- مالك؟ بردان أوي كده؟
- لا مش بردان .. ده انا بدفي ايدي عشان متبقاش ساقعة عليها
- لا يا شيخ .. قلبك حنين .. يلا يا واد!
يدي على صدر شوشو التي تضحك من الموقف، وأيضا تضحك من الدكتورة التي تركت كل شيء واقتربت بوجهها جدا من وجه الطفلة الجميل ووضعت اصبعها على انفها، وبلهجتها المرحة:
- حالا نخلص يا شوشو .. تعبناكي معانا
وأنا انتهزت الفرصة:
- ايوه تعبناكي معانا اوي .. خلاص خلصنا .. الف سلامة عليكي يا شوشو
- الله عليك يا ميكي!
في موقف آخر كنت سأتضايق من اسم ميكي ... لكن ميكي يضحك شوشو لذلك تحول لأجمل الأسماء
من عادتي أن أسجل لنفسي مواقف حدثت في الحياة اليومية شعرت فيها بمحتوى انساني رقيق أو مؤلم أو صادم يذكرني بكلام د.أحمد خالد توفيق نقلاً عن أوسكار وايلد عن الطبيعة التي تقلد الفنان وعن الواقع الذي يتحدى خيال أي كاتب .. لا أريد أن أنسى ما حدث وانطباعي عنه ..
أعتقد إني قمت هنا بما تسميه رنا (التخلص من ندوب الكتابة الخشنة) حيث (تبدو الأشياء التافهة جميلة)
عندما جمعتهم وراجعتهم الآن جميعاً مرة واحدة تذكرت بشدة رواية علاء خالد العبقرية : ألم خفيف كريشة طائر تنتقل بهدوء من مكان لآخر
الألم هنا ينتقل بهدوء من مريض لآخر .. سواء كانوا المرضى على الأسرة الذين يعرفون أنهم مرضى أو المرضى الواقفين حولهم بالمعاطف البيضاء وهم لا يعرفون أنهم مرضى ....
عايز شاي
كان الراوند راوند عصبية ..
وكانت الحالة حالة cerebellar ataxia (الترجمة في القاموس هي "الهَزَع المخيخي" وهو ما يجعلنا نعيد التفكير في موضوع لغتنا الجميلة ده)
وكان البطل الهامشي هو محمد الذي يحاول أن يظل حياً ويظل طبيباً ..
أدخل العامل المريض على كرسي متحرك .. فاقداً القدرة على الحركة في اطرافه الاربعة .. يتحدث بصعوبة شديدة جداً بالمقاطع المشوهة الممطوطة المميزة لذلك المرض - staccato speach - وبالكاد فهمنا انه يقول لنا: عايز شاي!
تجاهله الجميع إلى أن أتت الدكتورة .. بمجرد بداية زميلي في تقديم الحالة بمصطلحاتنا الطبية التي تبدو لغيرنا طلاسم غامضة أصر الرجل على تكرار طلبه مقاطعاً كلامه:
- عايز شاي!
- بايعياللشقثضفنهكمف يبادحوظالا - حاضر يا عم محمد هنجيبلك - لبثخهيقساغسفاةقحخسيشثت
- عايز شاي!
- بثاقفتكطوصظوب - ما قلنا حاضر يا عم محمد .. أول ما نخلص هنجيبلك - ثقلافايلةسيبىتثءيبصح
بدأنا الكشف و......
- عايز شاي!
- ما تجيبولو شاي يا ولاد
- والله يا دكتورة جبناله امبارح لما كشفنا عليه والعامل شربه (يصب الشاي في فمه مباشرة) ودلوقتي حالا قبل ما يدخل جبناله كباية تاني!
ملت على أحد زملائي وسألته: هو الكبايه هنا بكام؟ فقال أنها بجنيه ونصف
- عايز شاي!
- ما قلنا يا عم محمد هنجيبلك والله
فتحت الدكتورة الباب ونادت العامل:
- اول ما نخلص وتطلع بيه مكانه ابقى اعمله كباية شاي على حسابي
-يا دكتورة ده كده ليه عندنا 3 كبايات! .. دكتور احمد نصر ودكتور محمد فوزي هما كمان حاجزينله على حسابهم!
الدكتورة موجهة حديثها لعم محمد:
- عايز ايه بقى تاني .. ده انت كل القسم طالبلك شاي اهه!
- هما بيقولو كده ومش بيجيبو
- لا يا سيدي انا هجيبلك .. انا طالعة القسم دلوقتي عندي مرور وهعدي بنفسي اتأكد انهم بيشربوك الشاي .. خلاص كده؟ .. سيبنا نشوف شغلنا بقى
أحد زملائي (وهو يمتاز بشارب رفيع فوق فمه بيخنقني بصراحة) سمعته يهمس بضيق لزميل آخر:
- ايه الراجل اللي بيشتغل نفسه ده .. مايبطل وجع دماغ بقى!
قلت:
- كباية الشاي دي بالنسباله غير بالنسبالك .. الراجل ده بحالته دي خلاص خسر كل حاجة في الحياة .. الشاي ده هو آخر حاجة كويسه في حياته كلها .. تخيل انت اكتر حاجة بتبسطك في دنيتك ايه .. سفر؟ سهرة مع اصحابك؟ ماتش كورة؟ ترتب على الدفعة؟ الشاي بالنسباله هو كل ده ..
الزميل ذو الشارب الرفيع لم يبدي اقتناعاً بينما الزميل بدون شارب استجاب:
- عندك حق .. ده انت متعرفش كمان .. الراجل ده مراته ماتت ومكانش مخلف وبقاله هنا 3 شهور محدش بيسأل عنه!
- ومستكترين عليه الشاي؟!
بعد 10 دقائق :
- عايز شاي!
هذه المرة بابتسامة سعيدة رسمها بصعوبة على فمه المتشنج، جعلتنا نفهم أنه يمزح معنا .. ضحكنا جميعاً حتى الزميل ذو الشارب الرفيع ..
====
الفرن
أنا واثنين من زملائي واقفين حائرين في قسم الصدر مساءاً .. المريضة العجوز ترفض بشدة أي تعامل معنا ولو حتى سماع ظهرها من فوق الملابس!
أخبرت النائب الموجود فأتى ليقول لها بلهجة محذرة وهو يلوح بسبابته مهدداً:
- ها .. هتسيبيهم يكشفو عليكي على راحتهم ولا نوديكي الفرن تاني!
فورا ظهر عليها الفزع :
- لا خلاص .. كله إلا الفرن .. هسيبهم يعملو اللي عايزينه !
واستسلمت لنا تماماً ..
سألته بعدها عن هذا الفرن فضحك كثيراً وقال:
- ده جهاز الـ CT (الأشعة المقطعية) .. لما راحته مره رجعت مرعوبة أوي وبتقول دول دخلوني الفرن وطلعوني، ومن ساعتها لما نعوز منها أي حاجة نهددها اننا هنوديها الفرن تاني فتسمع الكلام ..!
لا أرى الأمر مضحكاً .. هذه المريضة لا تشعر بمشكلة في حياتها كلها وهي فرن رهيب حقيقي يقتلها ببطء هي وأمثالها، بينما تخاف كل هذا الخوف من هذا الفرن الوهمي الذي هو في حقيقته وسيلة لعلاجها ..
ليست وحدها .. كل واحد منا عنده فرنه الوهمي الخاص الذي يخاف منه بلا داعي، وفرنه الحقيقي الذي لا يراه ...
====
جلسات علاج السياسة
كانت هذه أول مرة في حياتنا ندخل قسم الأمراض النفسية .. كنت اتوقع أي شيء حتى مقابلة من يعتقد نفسه نيرون أو عنترة كما في فيلم اسماعيل يس .. لكني لم اتوقع أبداً أن أقابل من مرضه السياسة!
المريض كان يبدو شخصاً محترماً جداً عاقلاً جداً !
ملابسه نظيفة للغاية، وشعره مسرح بعناية، وذقنه حليقة، ويتكلم بكل هدوء وعقلانية
- ايه اللي جابك هنا؟
- أنا اللي جابني هنا السياسة!!
- ازاي يعني؟
- هو حسني مبارك اللي خلاني كده .. أول ما بس اشوفه في التلفزيون يركبني ميت عفريت!
- ليه كده؟
- ما انت شايف يا بيه حال البلد واللي احنا فيه .. الحرامية هما اللي ماسكين البلد .. شفت عملو ايه في أيمن نور؟
- ماله أيمن نور؟
- دخلوه السجن ظلم .. عشان عايزين يورثو البلد لابن الريس!
- طيب ولما انت مش عايز ابنه .. عايز مين يبقى الريس مثلا؟
- أي حد يا باشا بس يكون شريف ويخاف من ربنا .. أي حد حتى زيك انت يا باشا
(كلنا نضحك والدكتور يقرر تغيير الموضوع .. يبدو أنه فكر أن الحيطان لها آذان حتى لو كانت حيطان قسم الامراض النفسية)
- طيب خلاص .. سيبنا من موضوع السياسة ده .. مفيش حاجة تاني تاعباك؟
- لا مفيش .. انا مجابنيش هنا إلا السياسة!
- مفيش أي حاجة أي حاجة؟!
- يعني .. حاجات بسيطة كده مش مستاهلة
- حاجات بسيطة زي إيه؟
- ساعات اتضايق فاضرب اخواتي وأكسر البيت!!
- بتاخد مخدرات أو مكيفات؟
- لا دي حاجات بسيطة أوي كده متستاهلش
- قولنا بس .. حاجات بسيطة زي إيه؟
- باخد حشيش وشوية كيميا بسيطة زي كذا وكذا وكذا (كمية مرعبة من أصناف الأدوية المخدرة!)
- طيب .. وانت دلوقتي بعد العلاج بقيت كويس؟
- ايوة الحمد لله .. احنا كنا فين وبقينا فين .. لما جيت هنا بقيت باخد جلسات اشعاع بتطلع من دماغي السياسة .. ده انا حتى عايز آخد معايا الجهاز البيت وآخد الجلسات على طول عشان السياسة متجيش في دماغي تاني!
(جلسات الاشعاع هو الاسم الذي يقوله الدكاترة للمرضى على جلسات الكهرباء)
====
علاج أفضل للقلب المريض
- " ما يبطل رغي بقى .. صدعنا"
سمعت العبارة الهامسة من أحد زملائي خلف ظهري بينما كنت مع مجموعتي نفحص حالة أخرى .. نظرت نحوه فشاهدت ثلاثة من زملائي حول سرير مريض يتكلم باستمرار مما يعوقهم عن سماع قلبه .. ثلاثتهم يخفون بالكاد ملامح التذمر والضيق منه، ويكتفون بتحريك رءوسهم من حين لآخر كأنهم يسمعونه بينما لا يكفون عن أن يطلبوا منه الصمت قليلاً كي يسمعو .. كلما انتهى أحدهم من الكشف غادر فورا إلى أن انصرف الثلاثة ..
وقفت بجوار سريره ناظراً له فانتبه لأني أسمعه، فالتفت لي مكملاً ما يحكيه وكأني كنت معه منذ البداية ..
حكى عن زوجته وأبناؤه الذين افتقدهم .. حكى عن قريته التي كان يعيش فيها قديماً .. عن جبل كان يصعد فوقه ليرى خضرة الحقول بجوار صفرة رمال الصحراء، وعن ترعة كان يسبح فيها ويصطاد السمك وعن نخيل:
- " أنا كنت اصحى الصبح القى مفيش بلح للفطار .. اجري في ثواني اطلع النخلة ومن فوق أهز السباطة وينزل البلح يرخ على راس اخواتي"
حكى عن موسم حصاد القمح ودرسه، وعن أمه التي كانت تعد لهم البتاو والسمن البلدي:
- " أنا كنت كل يوم أشرب السمنة البلدي السايحة من الطبق أو آكلها بالمعلقة كدة (يمثل بيده حركة الملعقة) .. متوعوش انتو على الحاجات دي .. دلوقتي انتو بتاكلو السمنة اللي ملهاش لا طعم ولا ريحة"
حكى كثيراً جداً إلى أن استئذنت منه أن أغادر لأن وقت السكشن انتهى وعندي درس بعده ..
كان سعيداً للغاية وعلى وجهه ابتسامة راضية ..
أعرف جيداً أن قلبه الآن حاله أفضل ...
====
كرامة
القاعدة هي:
الأمهات في مستشفى الأطفال فقيرات بائسات ..
الأمهات في مستشفى الأطفال يمارسن ضمنياً التسول مننا، إن لم يكن النقود فعلى الأقل البسكوت والحلويات لأبنائهن ..
الأمهات في مستشفى الأطفال بلا كرامة (ككل المرضى تقريباً في أي مكان حكومي مجاني)
لكن نصيبي كان أن أرى استثناء القاعدة ...
عندما دخلنا عليها وأخبرناها أننا سنكشف الآن على ابنها لم ترحب خاصة أنه كان على وشك النوم .. ظننا أن هذا التعامل البارد على الأرجح مرده أنها تريد أن تأخذ منا شيئاً كالعادة، لذلك خاطبني زميلي:
- استنى يابني .. خلينا في الكلام المهم الأول .. طلع البسكوت اللي معاك
فاجأتنا بأن نظرت لنا بغضب وقالت بلهجة جافة صارمة:
- ممكن تكشف على راحتك من غير لا بسكوت ولا غيره .. احنا مش عايزين حاجة من حد!
شعرت بالخجل الشديد .. قلت لها:
- ده زي اخويا الصغير ودي حاجة بسيطة أوي .. والله ما نقصد أي حاجة ..
بعد لحظة صمت أخذت البسكوت وسمحت لنا بالكشف ..
تعلم زميلي من هذه الحالة شيئا جديداً عن الـ nephritic syndrome وتعلمت أنا شيئاً جديداً عن الكرامة ...
====
صوتان
كالعادة متاخراً جداً ..
كالعادة أصعد السلم مسرعاً جداً ..
لكن ليس كالعادة اوقفني شخص على السلم .. يرتدي جلباباً قذراً ويمسك بدوسيه تطل منه ورقات متسخة .. يقول لي أشياء لا أتبينها بسبب انخفاض صوته الشديد وبسبب تعبي (تسعة أدوار جرياً لأن انتظار المصعد يعني المزيد من التأخير، وهو ترف لا أملكه!) .. أطلب منه تكرار كلامه فيوضح:
- والله يا بيه أنا بأقبض معاشي 75 جنيه والدوا ده عايز أشتريه ومش قادر، وآدي ده كل الورق بتاعي شوفه .. ساعدني بأي حاجة تقدر عليها ربنا يساعدك ..
بحثت في جيوبي (عينه الملهوفة تتعلق بيدي انتظاراً لما سأخرجه من جيبي) فاكتشفت أني في استعجالي للنزول لم آخذ أي نقود مطلقاً (يدي خرجت فارغة وعينه عادت منكسرة) .. قلت له:
- أنا آسف .. والله ما معايا ولا مليم دلوقتي
قال لي:
- ولا يهمك .. ربنا يكرمك ويوفقك يا ولدي
تركته وأكملت صعود السلم بينما من خلفي مازال صوته يدوي بالدعاء لي وكأني أعطيته كل ما بجيبي بالفعل ..
صوته الآن مرتفع جداً ..
هل ارتفع صوته لأنه شعر بأنه انتقل من مرحلة الآخذ الذليل إلى مرحلة المعطي حتى لو كان ما يعطيه هو الدعاء فقط؟ .. هل يعرف أن عطاؤه هو الأثمن؟
====
خناقة ومصحف شريف وابتسامة
اكفهر وجه هذه الأم - رغم سنها الصغير ووجهها الذي لا يخلو من جمال - بمجرد ان دخلنا كأنها رأت الكونت دراكيولا شخصياً قادما مع حاشيته مشهرين أنيابهم الحادة لمص دماء ابنها ..!
طلبت منها الدكتورة أن نفحص طفلها الرضيع، فردت متذمرة:
- الدنيا برد عليه ومش عايزة أشيل البطانية
- معلش يا ستي هنخلص بسرعة
- طيب (بوجه عابس جدا)
الطفل مصاب بحالة فتاق متقدمة جدا أدت إلى severe oedema in the scrotum .. عقلي ذهب بعيداً إلى ان هذا الطفل على الأرجح قد ضاع مستقبله إلى الأبد في الزواج أو الانجاب!
الدكتورة تشرح وتطلب من الأم أن تديره لنا لنراه، والأم مازالت تتذمر:
- ما احنا قاعدين هنا بقالنا كذا يوم ومحدش راضي يعمله العملية والفتاق بيكبر .. هتقعدونا لحد امتى (ابنها يبكي بصوت عال)
الدكتورة تتجاهلها وتكمل الشرح .. ثم تطلب منها ارضاع ابنها ليسكت ..
الأم تتجاهل طلب الدكتورة وتواصل التذمر:
- وانا هيفيدني بايه اللي بتقولوه ده كله .. ما تعملوله العملية بقى ..
الدكتورة تواصل الشرح والتجاهل، ثم تكرر طلبها منها بارضاع الطفل ليسكت ..
الأم تكرر تجاهل طلبها، وتواصل التذمر بينما تهز ابنها هزا عنيفا يدل على عصبيتها الشديدة:
- ما تقولولنا لو مش عايزين تعملوهاله نطلع احنا بره نشوف حتة تاني!
الدكتورة مازالت تواصل الشرح والتجاهل، فيكون رد فعل الأم الغاضبة هو أن أخذت ابنها في حضنها واعطتنا ظهرها بحركة سريعة حادة، وبدأت في ارضاعه ..
هنا قلت لها :
- مينفعش نعمله العملية دلوقتي لانه صدره تعبان .. ده ميستحملش البنج ولو دخل عمليات كده هيموت فيها .. اول ما صدره يخف هنعمله العملية على طول ..
الأم تنظر للدكتورة:
- صح الكلام اللي بيقوله ده يا دكتورة؟
استجابت أخيرا بعد ان انقطع الشرح:
- أيوة صح .. هو بس صدره يخف وهيعمل العملية على طول
- بجد؟ (نظرة متشككة)
- أيوة والمصحف .. والمصحف الشريف يا ستي هو بس صدره يخف وهنعملهاله .. احنا هنقعدك عندنا ليه بس؟! .. معلش بقى وانتي بترضعيه زي ما انتي ادينا بس وشك عشان عايزين نشوف حاجات بسيطة في وشه وايده ورجله
هذه المرة استجابت الأم ببساطة، وتجاوبت معنا حتى انتهينا
أثناء انصرافنا قلت لها:
- ألف سلامة على ابنك .. ان شاء الله يبقى بكل خير
- الله يسلمك يا دكتور .. ابقى تعالى كل يوم .. ادعوله يكبر ويبقى دكتور زيكو
قالت جملتها الأخيرة بابتسامة جميلة جداً .....
هل كانت ستبتسم لو عرفت أن ما كنا نراه في وجهة ويده وقدمه هي علامات Down syndrome ؟!!
(البله المغولي - تخلف عقلي مع تأخر وظائف أخرى)
====
شوشو والميكي ماوس
بمجرد دخولي المكان متأخراً لفت نظري جمال الطفلة .. فعلا أجمل طفلة شاهدتها في المستشفى حتى الآن، ومن أجمل الأطفال الذين شاهدتهم في حياتي
فوراً قالت الدكتورة (التي أسمع منذ زمن عن أن من يجد نفسه معها هو شخص محظوظ جدا) بلهجة تمثيلية مرحة للغاية:
- تعااااااالى ياللي جاي متأخر .. ادخل على طول .. حط السماعة يلاااااااااااااااا !
- هيا عندها ايه؟
- انت هتسألني يا واد! ده انا اللي اسألك .. يلاااااا .. حط السماعة وقولنا شوشو (اذن هذا هو اسمها؟ .. رائع) عندها إيه ..
وضعت السماعة ..
يا رب لا تجعلها مريضة بمرض خطير .. تباً! صوت التنفس ليس طبيعياً .. يا رب لا تجعلها مريضة بمرض خطير .. تباً! صوت القلب ليس طبيعيا! .. يا رب لا تجعلها مريضة بمرض خطير .. تباً! إنه خطير!
- ها يا واد .. سمعت ايه؟
- سمعتsebilant ronci في الـlungs و murmer في الـ heart
- الله عليك! .. جامد أوي انت! .. جبت التايهة كده! .. بقى فيه حاجة اسمها murmer كده وخلاص .. نوعه ايييه يا وااااد؟
- نوعه pan systolic
- تماااام .. تبقى كده دي V S D ولا Rheumatic ؟
متشبثاً بالأمل:
- أكيد V S D لان سنها مناسب للـ congenital وصغير أوي على الـ Rheumatic (أسماء أمراض قلب)
- يا سلاااام عليك .. طب ايه رأيك بقى انها Rheumatic ..! شوشو عندها 8 سنين ومفيش مانع ييجي في السن ده حتى لو نادر .. أنا شرحت نميزهم ازاي من الصوت قبل ما تدخل ومفروض انكو عارفينها من الكارديو، بس ما علينا هعيدهالك تاني
اندمجت جدا في الشرح وفجأة بلا مقدمات:
- انت يا واد مالك كده .. فيه ايه؟
- مالي؟ فيه ايه؟
- مش عارفة .. بس من ساعة ما دخلت وانا حاسة انك عامل زي ميكي ماوس!
ضحك الجميع بما فيهم شوشو، وأكملت الشرح ثم فجأة:
- اوعى تكون بتزعل .. أنا باهزر معاك بس ..
- على راحتك مفيهاش حاجة ..
بعدها كان من المفترض أن نلمس صدر الطفلة بايدينا فقط لنشعر بنبضات القلب الغير طبيعية .. عندما أتى دوري كنت أنفخ في يدي و ....
- مالك؟ بردان أوي كده؟
- لا مش بردان .. ده انا بدفي ايدي عشان متبقاش ساقعة عليها
- لا يا شيخ .. قلبك حنين .. يلا يا واد!
يدي على صدر شوشو التي تضحك من الموقف، وأيضا تضحك من الدكتورة التي تركت كل شيء واقتربت بوجهها جدا من وجه الطفلة الجميل ووضعت اصبعها على انفها، وبلهجتها المرحة:
- حالا نخلص يا شوشو .. تعبناكي معانا
وأنا انتهزت الفرصة:
- ايوه تعبناكي معانا اوي .. خلاص خلصنا .. الف سلامة عليكي يا شوشو
- الله عليك يا ميكي!
في موقف آخر كنت سأتضايق من اسم ميكي ... لكن ميكي يضحك شوشو لذلك تحول لأجمل الأسماء
السلام عليكم
ردحذفحلو اوى البوست ده ..
إنسانيا راق جدا .. راق جداا
ربنا يكتر من أمثالك
ويزرع الرحمة في قلوب المعالجين
:)
سلاماتى
جميلة
ردحذفقصة الطفل اللي عنده "داون" مستحيلة..قصدي مؤثرة أوي
قسم الأطفال من أصعب الأقسام اللي الواحد بيعدي عليها...ربنا يشفي كل مريض ويعينا عاللي بنشوفه
:))
رحمك الله
ردحذف