عندما عرف محمد قيمة كون شكله "نضيف وابن ناس"
حين شاهد محمد حامد مشاهد الضرب والسحل والقتل على التلفزيون، قرر فوراً النزول للمشاركة في إسعاف المصابين بحكم تدربه في الهلال الأحمر، لكنه لم يتوقع أبداً أنه سيكون في جانب المسحولين أيضاً!
محمد طالب في كلية الهندسة، ناشط منذ أربعة سنوات في المجالات التنموية لا السياسية، يعمل في جمعية (عشانك يا بلدي) التي تساعد الفقراء في منطقة عزبة أبوقرن العشوائية، كان يأمل أن تغير الثورة من حالهم أو على الأقل أن تحدث طفرة كبيرة في العمل الأهلي لكن لم يتغير أي شيء.
سابقاً كان محمد يؤمن بأن الطريق الوحيد للإصلاح في مصر هو التغيير التدريجي جداً البطيء جداً في عمق المجتمع، إلى ان تغير ذلك بدخوله في دفعة 2010 (مدرسة نماء) التابعة لجمعية (نهضة المحروسة) المختصة بتدريب الناشطين في المجالات التنموية حيث تعرف بصديق جديد أقنعه هو وكل زملائه بأنه لا بديل عن ثورة تغير النظام من جذوره وأن هذا ليس حلماً مستحيلاً أكثر من استحالة الاقتصار على التغيير البطيء من الأسفل فقط، وانه ربما يكون حلماً قريباً سيشاركون هم أنفسهم فيه . فيما بعد سيعرف محمد أن هذا الصديق أصبح أحد أفراد فريق أدمنز صفحة كلنا خالد سعيد وشارك بالفعل في تحقيق الحلم.
عندما وصل محمد إلى شارع محمد محمود تقدم حتى وصل إلى أقرب مستشفى ميداني من خط النار في شارع جانبي من محمد محمود مرافقاً لثلاثة أو أربعة أطباء هم فقط من اقتربوا إلى هذا الحد، انهمك محمد قدر استطاعته في اسعاف هذا العدد الهائل من المصابين، وفجأة قام العساكر بهجوم عنيف فتراجع الثوار بشدة وتجاوز العساكر فتحة شارع المستشفى، ثم انتبهوا لهم بعد قليل فاقتحموا المكان محطمين كل ما تطاله أيديهم من أدوات طبية، وضاربين كل من تطاله عصيهم وأحذيتهم حتى الأطباء والمصابين!
انتبه محمد هنا لأن معهم في نفس المكان بثينة كامل، وأنها تصرخ معرفة إياهم بنفسها . أجرى ضابط كبير اتصالاته فأتاه الأمر بإطلاق سراحها فقط لكنها رفضت بإصرار أن ترحل إلا مع كل مرافقيها، فاحتجزوها في مكانها مع الطبيبات - وسيتم نقلهن بعدها للوزارة حيث سيحدث ما حكته من قول مساعد الوزير لها بفخر "أنا فلول" وقول آخر "حبيب العادلي ده حبيبي"! - بينما تم سحل كل الباقين وعددهم حوالي الثلاثين بما فيهم المصابين إلى كشك خشبي بمدخل وزارة الداخلية، حيث أخذوا أسمائهم واستولوا على كل ما معهم وهم مستمرين في سبهم وضربهم بقسوة، ثم تم نقلهم إلى قسم عابدين حيث استقبلهم مخبر يصيح "مادام دخلتو القسم محدش هيتعرضلكو تاني، هنا حقوق إنسان وإحترام قانون ... يللا يا ابن الـ (......) منك ليه كله وشه للحيط!!"
المخبر كان مقتنعاً فعلاً بما يقول، فبمفهومه مادام لم يضربهم فهذا هو قمة التعامل الإنساني واحترام القانون حسب تعليمات الوزارة الجديدة!
هنا بدأ محمد أخيراً ينظر جيداً لمرافقيه ومنهم من كان في الزنزانة قبل قدومهم، طفل صغير يبكي بفزع، شاب فقد عينه تماماً ووجهه غارق في الدماء، رجل كبير السن ملتح مصاب برصاصة مطاطية في قدمه، شاب تحول ظهره إلى مصفاة دامية من كثرة الخرطوش الذي تلقاه فيه .. يصرخ محمد مطالباً الضباط والمخبرين بمساعدة الجرحى لكنهم جميعاً يتجاهلونه تماماً . المصاب في ظهره يفقد وعيه من كثرة ما نزف فيتبرع أحد العساكر وقد رق لحاله بإحضار ماء وسكر، هذه هي المعونة الطبية الوحيدة التي سيتلقونها هنا حتى يخرج محمد!
بعد ساعات طويلة جاء ضابط يطلب ممن سيناديهم الاستعداد للخروج، اختار فقط من يبدو عليهم أنهم "ولاد ناس وأشكالهم نضيفة"، حتى أنه انتقى شاباً ونظر بشك لهيئته ثم عندما عرف أنه سائق موتوسيكل ديلفري أعاده لمكانه - ربما هو أحد الأبطال المجهولين الذين خاطروا بحياتهم لنقل المصابين على موتوسيكلاتهم، تلك الموتوسيكلات التي رأى العالم كله الضباط يشعلونها بحقد! - فقط طلاب الجامعات أبناء الطبقة المتوسطة وعددهم عشرة هم من خرجوا، بينما بقى كل الذين "أشكالهم غلط" بما فيهم المصابين، ولا يعرف محمد شيئاً عن مصيرهم حتى الآن، ربما كان المخطط لو نجح الأمن في سحق المظاهرات أن هؤلاء هم من ستظهر صورهم في الصحف وعلى التلفزيون بجوار المضبوطات بصفتهم البلطجية الذين نالوا احكاماً عسكرية رادعة!
بينما محمد في طريقه لمنزله يفكر في ما كان سيحدث له لو كان "شكله غلط" فيشعر بالرعب، ويحمد الله على نعمته عليه.
الإصابة الأكثر إيلاماً لعلي
أثناء معركة - أو مذبحة! - شارع محمد محمود كلمني أحد أصدقائي ليخبرني بإصابة صديقي العزيز علي الرَّجال بالخرطوش في رأسه ووجهه وصدره، ووجوده حالياً بمستشفى القصر العيني، سألت بلهفة: عينه جرالها حاجة؟ فطمأنني بأن عيناه سليمتان بحمد الله، فشعرت بارتياح وفرحة كبيرة، ثم فكرت في مدى بشاعة المدى الذي أوصلونا إليه، لقد أصبح خبر إصابة صديقي خبراً مفرحاً مادام لم يفقد بصره أو حياته!
علي نموذج مثالي لـ (ابن الناس الكويسين) كما يطلقون عليهم، مهذب جداً، محترم جداً، صوته المنخفض دائماً وأسلوب حديثه الراقي للغاية أصبح نادراً في هذا الزمان، ربما لهذا علاقة بأسرته ذات المستوى المادي والإجتماعي المرتفع، وذات الأصول الأرستقراطية، فجده الباشا كان سكرتير حزب السعديين في عهد ما قبل ثورة يوليو.
علي خريج كلية الهندسة، نال شهادته بناء على رغبة أهله ثم التفت بعدها لما يرغب هو فيه، فدرس العلوم السياسية حتى وصل إلى تحضير الماجستير فيها من النمسا، كما أصبح أهم مساعدي العظيم د.حسام تمام - رحمه الله، توفى منذ شهر - في وحدة الدراسات المستقبلية بمكتبة الأسكندرية التي قامت بدور كبير في تنظيم ندوات ودورات التوعية السياسية بعد الثورة . في آخر لقاء لي بعلي قبل إصابته كان يحكي بحزن ومرارة واضحين على وجهة عن المصاعب التي تواجه عملهم في المكتبة وخفض ميزانية وحدتهم الضئيلة أصلاً من الإدارة التي يتقاضى كبارها عشرات الآلاف شهرياً وكانوا مقربين من سوزان مبارك وأصبحوا الآن يتحدثون باسم الثورة "لو مؤسسات الدولة فيها فلول إحنا عندنا إدارة المكتبة دي أم الفلول" . شارك علي في ثورة صغيرة قام بها العاملون بالمكتبة لتطهير الإدارة، لكن خذلهم الجميع، وتوصلوا في النهاية لحل شكلي لم يغير أي شيء جذرياً، والآن هناك من يخبر علي بأن الإدارة لن تجدد عقده بمجرد نهاية مدته.
لكن لعلي - ابن الناس الكويسين - وجهاً آخر ..!
يحكي علي عن وقوفه في مقدمة مظاهرات يوم 25 في بلده الأسكندرية، وتوجيهه الناس لعدم الوقوف مكانهم كالعادة والإصرار على اختراق صفوف العساكر، توقفه عن هتاف "سلمية سلمية" بمجرد بداية ضرب العساكر لهم بالعصي ثم قنابل الغاز والرصاص المطاطي والخرطوش ثم الرصاص الحي الذي أسقط أحد أصدقاءه شهيداً، اشتباكه الجسدي مع العساكر وتبادله الضرب معهم، إلقاءه الطوب عليهم، تفهمه لما دفع الناس تلقائياً لحرق الأقسام مادام الضباط هم من بدأ إطلاق النار وقتل الناس منها، كما أنها رمز يد نظام مبارك القامعة بكل ما تحمله من تراث التعذيب والظلم ولولم نحطمها لما نجحت الثورة (وهذا لا يمنع أنه خاطر بحياته أثناء مشاركته في محاولة بعض المتظاهرين إطفاء حريق مديرية الأمن خوفاً على المباني المجاورة)، مشاركته لاقتحام أمن الدولة بالأسكندرية وضربه بكل غضب وعنف لضابط أمن دولة ... كما يحكي علي بقناعة تامة عن دوره يوم معركة محمد محمود حين حاول تنظيم الصفوف الأولى ليدافعوا عن أنفسهم بالطوب والعصي بكفاءة أفضل.
يحدثني علي - بنفس نبرته الهادئة الراقية - عن شرعية عنف المواطنين ضد عنف الدولة الغير مبرر قانونياً، وعن أن اللحظة التي يضغط فيها الجندي زناد بندقيته الموجهة نحو متظاهر هي لحظة سقوط (العقد الاجتماعي) بين المواطن والدولة، فالدولة من حقها احتكار العنف مادام هذا في إطار القانون المتوافق عليه مجتمعياً كما يقول عالم الإجتماعي الألماني ماكس فيبر، أما عند خروجها عن القانون نعود فوراً إلى (الحالة الأصلية) بتعبير الفيلسوف الإنجليزي جون لوك . يردد علي بإيمان تام عبارة المفكر الإنجليزي الشهير توماس هوبز التي قالها قبل أكثر من 300 عام: "للفرد حق مقاومة السلطة الغاشمة إنطلاقاً من مبدأ الدفاع عن النفس"
كما يسخر علي دائما من فكرة التعرف على البلطجية بالشكل " ما أنا نفسي بأعمل الحاجات اللي بيسموها بلطجة، وكمان أساساً أنا نفسي لو شفتني في قلب الضرب والدعك والطوب والغاز هتقول عليا شكلي متشرد، هو إحنا نازلين نتفسح!"
علي يتعافى الآن من إصاباته الجسدية، لكن إصابته النفسيه بشعوره بالظلم له ولرفاقه لن تتعافى أبداً إلا بأن يأخذوا حقهم من المجرمين، يتمنى ان يحدث ذلك بالقانون عبر المحاكمات العادلة العاجلة، بدلاً من أن يضطر الناس لأخذ حقوقهم بأنفسهم في أقرب صدام شعبي قادم.
سامبو يدفع ثمن جدعنته
تُرى بماذا يفكر سامبو الآن وهو في زنزانته في السجن الحربي؟ هل يذكره أو يزوره أي أحد باستثناء أفراد عائلته؟
سامبو هو اسم شهرة أحمد جاد الذي نزل يوم 28 يونيو مساءاً من منزله بالشرابية ليدافع عن أهالي الشهداء الذين سمع أنهم تعرضوا للضرب والاعتداء من بلطجية ومن قوات الأمن المركزي، أهالي الشهداء الذين كانوا معتصمين منذ أربعة أيام قبلها أمام ماسبيرو احتجاجاً على بطء المحاكمات إلى حد التواطؤ، فالعادلي والكبار معززين مكرمين في سجن فاخر في طرة، والمحاكم في السويس والأسكندرية في وقت متلاحق أطلقت سراح الضباط، ولم يصدر أي حكم إطلاقاً إلا على أمين شرطة هارب.
لا يعرف سامبو أي شيء عن ماكس فيبر وهوبز ولوك ومونتيسكو وكل تلك الأسماء الغريبة التي يرددها علي الرَّجال، لكنه يعرف أشياءا وأشياء عن الرجولة والجدعنة اللذان يمنعا أن يضرب الأقوياء الضعفاء بلا رادع، خاصة لو كان هؤلاء الأقوياء هم رجال الأمن وهؤلاء الضعفاء هم أهالي الشهداء الأطهار.
أثناء الاشتباكات تمكن سامبو من انتزاع بندقية خرطوش من يد أحد العساكر - ربما رأى قبلها متظاهراً يفقد بصره بها - لم يستخدمها، وفي اليوم التالي صباحاً قام من تلقاء نفسه بتسليمها لخادم مسجد عمر مكرم . المفاجأة التي لم يحسب حسابها هي أن صورته ممسكاً بالبندقية قد ظهرت في الصحف كأحد البلطجية المجرمين، وهكذا بعد ثلاثة أيام تمكنت الداخلية من معرفة شخصيته واعتقاله من منزله . خضع سامبو مع رفاقه لمحاكمة عسكرية عاجلة ونال حكماً بالسجن خمس سنوات.
لماذا أتذكر سامبو الآن؟ لأنه بالتأكيد الآلاف من أهل وأصدقاء سامبو وأمثاله من المحاكمين عسكرياً أو مؤخراً الماثلين أمام نيابة أمن الدولة العليا طواريء - يٌقدر عددهم بـ 12 ألف - كانو من المشاركين في الأحداث الأخيرة . ربما كان أقارب سامبو وعائلة علاء عبد الفتاح وأم أحمد عبدالكريم صديقي من أسيوط المعتقل منذ أحداث السفارة الإسرائيلية واقفين قرب بعضهم يهتفون بصوت واحد ضد العسكر.
وأتذكر سامبو أيضاً لأنه بالتأكيد يتصفح الصحف الآن في سجنه - لو كانت تصله أصلاً - باحثاً في برامج الأحزاب والمرشحين للانتخابات عن أي ذكر لهم، عن مرشح واحد يذكر ولو في آخر برنامجه مطلب إعادة محاكمتهم محاكمة عادلة امام قاضيهم المدني الطبيعي، أو حتى أضعف الإيمان مطلب مساواة المدنيين بالعسكريين، فليُحاكَم الضباط قتلة الشهداء بما فيهم العادلي أمام محاكم عسكرية عاجلة كالمدنيين بالضبط!
يحيي يقترح مبادلة عادلة
لا اعرف كثيراً عن يحيي.
أعرف اسمه الأول، وأنه من بولاق أبو العلا، وأنه من الألتراس مما يستدعي لديّ كل القصص التي سمعتها عن كونهم في مقدمة صفوف اقتحام ميدان التحرير يوم 25 مساءاً حيث أول الفيديوهات الشهيرة للثورة للآلاف يهتفون حول الشماريخ "الشعب يريد إسقاط النظام"، ثم كونهم مرة أخرى في أول صفوف اقتحام كوبري قصر النيل يوم 28 في الفيديو الأشهر لقوات الأمن في مواجهة المصلين على الكوبري . أتذكر أيضاً صديقي الذي تم سحله واعتقاله في فض الميدان في أول أيام الأحداث الأخيرة الذي حكى لي عن اعتقال شباب من الألتراس معه، وعلى اختلاف هيئاتهم وتنوعهم بين مرتدي الملابس الغالية ومن يبدو عليهم أبناء المناطق الشعبية كانوا يغنون داخل سيارةالحجز في صوت واحد وروح عالية واحدة (قالوا الشغب فى دمنا وازاى بنطلب حقنا .. يا نظام غبي افهم بقى مطلبي .. حرية حرية حرية)
هل كان يحيي منهم؟ لا أعرف، لكني أعرف جيداً أنه بالتاكيد ممن "أشكالهم غلط"، وأعرف أنه كان مصاباً برصاصة مطاطية في قدمه وكان صديقي الطبيب بالمستشفى الميداني يعالجه ويطلب منه أن يعود لمنزله فوراً للعناية بقدمه لكنه رفض بإصرار "ولما إحنا نروح مين اللي يحميكو؟ مين يحمي الحريم والعيال الصغيرة والدكاترة والناس اللي ملهاش في اللبش زينا؟"
رد عليه صديقي ممازحاً "ميغركش المنظر .. ده إحنا ساعة الجد هنقلع البلاطي وهتشوف أعلى بلطجة"، ضحك يحيي طويلاً ثم قال ما هز صديقي وجعله يلزم التحرير حتى الآن رغم انفضاض الغالبية الساحقة من الناس "إحنا بنحميكو من الـ (*****) - شتيمة بذيئة على الداخلية - وانتو بتحمونا من الجهل، كدة نبقى خالصين!"
دون أن يدري قال يحيي بالحرف ما قاله آخر بنفس ظروفه لفتاة أصر على سحبها بعيداً عن موقع المواجهات "انتي شكلك بنت ناس و متعلمة، خلونا احنا الفقرا نموت عشان لما الدنيا تهدى يفضل المتعلمين اللي يقدروا يفيدوا البلد!"
يحيي يكمل كلامه بثقة واعتزاز: "مش هروح من هنا غير لما نجيب المشير في شوال .. وكمان نمسك اتنين عساكر ونرجعهم تاني عشان يعرفو اننا قادرين عليهم بس جدعان"
ومرة أخرى دون أن يدري قال يحيي نفس ما يقوله علي الرّجال عن أخلاقية الثورة حتى لو اضطرت لاستخدام العنف أحياناً، فقد شهد علي هزيمة قوات الأمن المركزي وحصارهم واستسلامهم التام، ولم يفكر أبداً هو ورفاقه في الانتقام بل بالعكس ساعدوا العساكر الغلابة على العودة لبلادهم "لو كنا عايزين نقتل منهم زي ما قتلو مننا كنا عملناها، لكن سبناهم وإحنا قادرين عليهم عشان إحنا مش مجرمين وبلطجية زي الداخلية"
محمد يشعر أنه كان أحمق ..!
ذات يوم ركب محمد ميكروباصاً من رمسيس إلى السيدة عائشة فدار بينه وبين السائق حوار يشكو فيه من إحباطه لأنه لم يستفيد من الثورة أي شيء بل بالعكس زادت الأوضاع سوءاً "كنا بنقول الحاجة لو مرخصتش أكيد مش هتغلى تاني، بس لقيناها غليت!"، ثم شاهد بالصدفة البحتة فيديو على يوتيوب فيه من يقول أثناء حصارقسم السيدةزينب "خلاص مبقتش فارقة، كدة ولا كدة ميت" ثم صورة لشهيد فقير مجهول دفعته للبحث عن المزيد منهم، ليكتب بعدها تدوينة /مقال نشرها متوقعاً ان يقرأها 100 على الأكثر من أصدقاءه وأصدقاء أصدقاءه ليفاجأ بأن عداد اللايك يرتفع بجنون حتى تجاوز الألف، نام واستيقظ ليفاجأ مرة أخرى بأن العدد تجاوز الـ 4000 وبجد رسالة تطلب منه الظهور في نفس اليوم مساءاً في برنامج محمود سعد وبعدها بنصف ساعة كلمه من يطلب منه الظهور على الجزيرة مباشر، وفي الأيام القليلة التالية تلقى المزيد من العروض
يعرف محمد جيداً أن شخصنة أي أمر غالباً يحرفه عن مساره، وأن صفحة خالد سعيد قد تضررت في فترة التركيز على شخص وائل غنيم بين متفق معه ومهاجم له، وهو نفس ما حدث بالتركيز على شخص أسماء محفوظ بغض النظر عن القضية التي تطرحها . لم يرد أبداً أن يتكرر معه نفس الموقف، وهكذا رفض كل العروض الإعلامية إلا اثنان فقط قدّر أنهما كافيان لنشر الفكرة دون نشر الشخص.
في الأسابيع التالية شعر محمد بالفرحة الغامرة، لقد نجح، شاهد لافتات "الفقراء أولاً" تملأ ميدان التحرير في جمعة 8 يوليو دون أن يدري أحد أنه حاضر هناك، العديد من الصحفيين ومرشحي الرئاسة يتحدثون عن المبدأ وأغلبهم لا يذكر شخصه، حتى البابا شنودة في عظة الأحد يدعوا المسيحيين لرفع شعار الفقراء أولاً، يفرح محمد باكتساب الفكرة استقلاليتها وانتشارها، وأن يصبح هذا هو موضع المزايدة والمنافسة بين الجميع.
لكن بعد فترة ليست بالطويلة اكتشف محمد حماقته، فالأمر لم يتعدى مزايدة إعلامية عاد بعدها الجميع إلى نفس مواقعهم القديمة، ونفس معاركهم القديمة، ونفس كلامهم القديم .. ليست هذه المرة الاولى التي يشعر فيها بهذه الحماقة، فهو قد أعمى نفسه وتجاهل ما يعرفه جيداً جداً عبر قراءاته عن ارتباط الجيش المصري بشبكة المصالح الدولية السياسية والاقتصادية التي يضمن استقرارها في مصر وفي إطارها ينال معونته السنوية من أمريكا البالغة مليار و300 مليون دولار بلا أي رقابة، تجاهل تأكده من أن الجيش وحلفاءه الغربيين سيقاوموا حدوث تغيير جذري في النظام وهتف بحماس "الجيش والشعب إيد واحدة"، بل إنه كان في الأشهر الأولى يمنع أي شخص يهتف أمامه ضد المشير!
محمد يشعر بتأنيب الضمير لأنه يشعر الآن بأن الفقراء لم يستفيدوا شيئاً مما كتب، المستفيد الوحيد هو نفسه! ويشعر بتأنيب الضمير أيضاً لأنه لم يحاول متابعة أي عمل واقعي إيجابي في هذا المجال بنفسه عاذراً نفسه بضيق وقته بسبب الدراسة، ومكتفياً بالظن أن انتشار الفكرة سيدفع الآخرين خاصة ذوي الإمكانات المادية والسلطوية للعمل.
عندما يشاهد محمد تعليقات الناس على صور سامبو وأمثاله من أبطال شارع محمد محمود وكلامهم عن هؤلاء البلطجية السرسجية يشعر بالعبث، لقد عاد الناس لترديد نفس الكلام كأن شيئاً لم يكن، كأنهم طهروا أنفسهم بضغط (لايك) و (شير) وانتهى الأمر على ذلك . يشعر أيضاً من هذا الكلام بجرح شخصي، فهو - وإن لم يكن فقيراً أو يعيش بمنطقة شعبية - إلا انه يعرف جيداً أن العديد من أفراد عائلته الأعزاء الودودين في قرية والده لو ظهروا بالصدفة في أحد صور محمد محمود لأشار البعض لهم قائلين "أشكالهم غلط، بلطجية، بيئة، سرسجية!" .
محمد يؤرقه بشدة مشهد الفتاة ذات الثوب البنفسجي التي يجرها عسكري الجيش البطل من شعرها في مشهد مريع، لا يعرف أي احد مجرد اسمها كما لا يعرف أحد محمد حامد وعلي وسامبو ويحيي و آلاف الشهداء والمصابين والمسجونين . ربما كانت هذه الفتاة أيضاً تهتف في وقت ما "الجيش والشعب إيد واحدة" مؤمنة أن حياتها ستصبح أفضل.
يتخيل أخته أو أمه مكانها ثم يتذكر أن أمه وخطيبة صديقه كادتا بالفعل أن تكونا مكانها، فكلاهما اعتقل معه في 26 يناير وخرجن من القسم بعد وصلة تهديد غليظ مبطن من نوع "انتو ستات محترمات تقعدو في بيوتكو أحسنلكو من البهدلة " . لم تتعرض أمه "للبهدلة" لأنها بمجرد اعتقال الشباب ومحاصرة قوات الأمن لهن قالت للضابط "ابعدوا عننا وهنطلع العربية باحترامنا!"، بينما خطيبة صديقه التي قاومت الاعتقال تم شتمها بسفالة وضربها بقسوة وهددها الضابط "لو مطلعتيش العربية يا بنت ال (........) هقلعك ملط في الشارع هنا!" . هل يلوم أحد خطيبها عندما يشعر بالغضب والقهر والعجز وهو يرى ذاك الضابط مازال في موقعه بلا أي حساب إطلاقاً؟ هل يلومه أحد لو أنه في أول فرصة متاحة للاشتباك مع قوات الأمن انحنى والتقط حجراً ورماه؟
محمد يؤلمه بشدة سرعة نسيان الناس وضياع الحقوق، والآن بدلاً من مطالبتنا بحق شهداء الثورة بالمحاكمة العاجلة العادلة للمجرمين بما فيهم العادلي ومبارك نفسه، أصبحنا نطالب بحقوق من سقطوا في مسرح البالون، ثم في العباسية، ثم في ماسبيرو، ثم أخيراً في شارع محمد محمود! في آخر بيان للمجلس العسكري اعتذروا عن الأحداث، هل مجرد إعتذار هو ثمن 41 شهيد وحوالي 2000 جريح منهم 60 فقدوا أعينهم؟ ياللرخص!
محمد يشعر بخيبة الأمل من الوسط السياسي المصري، هذا الوسط الذي كان دائماً أقل من حركة الشارع، السياسيين تفاوضوا مع عمر سليمان ثم وقعوا وثيقة عنان، وهم من أفسد اعتصام 8 يوليو وحوله عن قضاياه الرئيسية عن محاكمات القتلة وإصلاح الداخلية والحد الأدنى للأجور، إلى خلاف نخبوي حول المباديء الدستورية وحول أسماء الوزراء الذين يشملهم التعديل الوزاري مما أفقده زخمه الشعبي، وهو نفس ما يتكرر الآن بتحويل كل ما حدث الذي كاد يرقى إلى ثورة ثانية كاملة إلى خلاف حول وزارة الجنزوري وحول أسماء أعضاء الهيئة الاستشارية التي ستعاون المجلس العسكري، هكذا ربما لن يبقى من كل ما حدث إلا تغيير اسم شارع محمد محمود.
محمد لم يجد في دائرته أي مرشح يعرف بيقين كامل أنه سيعبر عنه، لم يجد من يضع على رأس برنامجه محاكمات عاجلة للضباط القتلة، أو إعادة هيكلة وزارة الداخلية، أو حساب من استورد الغاز السام المحرم دولياً، أو حتى إعادة هيكلة الإجور في مؤسسات الدولة ووضع حد أدنى وحد أقصى عادليّن . اختار الأفضل (نسبيا) ومنحهم صوته آملاً في أنه ربما بعد إتمام انتخاب المجلس وانعقاده يتغير الحال ولو قليلاً.
محمد لا يعرف شيئاً عن المستقبل، وليس متأكداً من أي شيء، بعد كل ما حدث فإن أي شيء سلبي أو إيجابي يمكن أن يحدث، من كان يحلم قبل عام فقط أن يرى 100 ألف في التحرير أو أن تجبر المظاهرات مبارك على تغيير وزير؟ وفي المقابل من كان يتوقع وهو يحتفل يوم 11 فبراير أن الشهداء سيستمرون في السقوط بعدها؟ لذلك هو ليس متفائلاً جداً إلى حد "هنجيب المشير في شوال" كما يقول يحيي ولا متشائماً جداً إلى حد "ثورتنا اتسرقت خلاص والشهدا دمهم راح وليهم ربنا" كما يقول بعض أصدقاءه، لذلك هو لا يملك التوقف أبداً آملاً في أن الأفضل ربما يأتي . سيستمر بفعل ما في يده، يشارك في الانتخابات، ينزل للتظاهر رغم قلة شجاعته وضعف إمكاناته الجسدية، يذاكر لامتحاناته رغم ضعف إمكاناته الدراسية ... ويكتب تدويناته متذكراً قول الأبنودي:
هل نكف عن المحاولة؟
أو نحاول؟
لو سكتنا، يقولوا ضاعوا
لو وقفنا، يقولوا باعوا
......
لأ .. نحاول
لأ .. نحاول
لأ .. نحاول
=====
روابط ذات صلة:
شهادة من طبيب بالمستشفى الميداني:
http://www.facebook.com/notes/yehya-kadry/%D8%B9%D9%86-%D9%85%D8%B5%D8%B1-%D8%A7%D9%84%D8%AA%D9%8A-%D8%A3%D8%B9%D8%B1%D9%81/10150375266227540
شهادة أحد من حوكموا عسكرياً بعد أحداث مسرح البالون:
http://tahrirdiaries.wordpress.com/2011/08/13/%D8%B4%D9%87%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D9%81%D8%B1%D9%8A%D8%AF-%D8%B9%D9%84%D9%8A-%D8%A3%D8%AD%D8%AF%D8%A7%D8%AB-%D9%85%D8%B3%D8%B1%D8%AD-%D8%A7%D9%84%D8%A8%D8%A7%D9%84%D9%88%D9%86/
فيديو مهم لأحداث شارع محمد محمود:
http://www.youtube.com/watch?v=T9JmBTotCWQ
عن إدارة مكتبة الأسكندرية:http://elbadil.net/%D8%BA%D8%A7%D8%AF%D8%A9-%D9%86%D8%A8%D9%8A%D9%84-%D8%AA%D9%83%D8%B4%D9%81-%D8%B1%D9%88%D8%A7%D8%AA%D8%A8-%D8%A8%D8%B9%D8%B4%D8%B1%D8%A7%D8%AA-%D8%A7%D9%84%D8%A2%D9%84%D8%A7%D9%81-%D9%81%D9%8A-%D9%85/